وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْ

وآية رفع الطور آية عظيمة من بين جملة من الآيات الباهرة التي تواترت وتكاثرت لهؤلاء القوم الذين لا يوقنون ... وهذه الآية الكريمة بالذات لها مغزى ومعنى عميق ...

هذا الجبل العظيم ... كان أول الآيات وآخرها ... في حياة كليم الله تعالى موسى عليه السلام... فقد ناداه رب العالمين جل جلاله من جانبه الأيمن ...

وقربه نجيا ... وانعم عليه بما اختصه به من دون الأنبياء والرسل جميعا, وهو الكلام مباشرة بدون واسطة من خارج نفس موسى عليه السلام....

لأن الكلام النفسي والإلهام الداخلي .... يشترك فيه كل الأنبياء ... وإنما اختص الله تعالى موسى عليه السلام بالكلام والوحي من خارج نفسه يملأ مسامعه ويحيط به ... هالة نورانية قدسية قطعت كل الوشائج والصلات بين موسى عليه السلام وبين جسده بكل ثقله وشهواته ورغباته...

فهذا الجبل العظيم تشرف وتنعم بهذه الميزة والنعمة العظيمة ... أن يكون حاضرا في مشهد النداء الأول لموسى عليه السلام ... ثم عودة موسى مرة أخرى إليه... لمناجاة رب العالمين جل جلاله وتلقي التوراة ... لتكون منهج حياة للمؤمنين من بني إسرائيل ... وهى أيضا كلام الله تعالى ... وكان هذا من اعظم النعم وأكبرها على الإطلاق على بني إسرائيل ... وعلى كل الأمم الكتابية ... لينعموا بكلام الله تعالى كما نعم موسى الكليم عليه السلام بنعمة الكلام القدسي .... ولكن من داخل النفس من خلال وحي الآيات وما تقذفه من الحق في قلوب المؤمنين المتدبرين لكلمات الله تعالى , فتمحق ما فيها من باطل ... وتحرق ما بها من شبهات وأباطيل...

ونرى من خلال وحي الآيات ... أن مشهد إيتان موسى عليه السلام التوراة ... كان آخر مشاهد الكلام القدسي المباشر لموسى الكليم .... ليعود إلى قومه بهذه النعمة العظيمة الجسيمة ..... فينعموا جميعا بهذه النعمة مع موسى عليه السلام ...

ثم ماذا بعد ... أن تمت نعمة الله تعالى الكبرى على بني إسرائيل بالتوراة ... 

لقد كان لنزول التوراة أثر كبير جلل .... فقد أنهت وختمت على كل الآيات الحسية الكونية التي تتابعت على بني إسرائيل ...

وكان آخر هذه الآيات الكونية ... هو طيران هذا الجبل العظيم وارتفاعه الى السماء...

والذي يبدو لنا من هذه الآية الكونية ... أن ارتفاع الجبل لم يكن بقصد إهلاك وتدمير بني إسرائيل .... وإنما كان رسالة واضحة لبني إسرائيل على انتهاء زمن الآيات الكونية .. وارتفاعها عنهم ... فقد كفتهم التوراة وأغنتهم عن كل الآيات الكونية الحسية ..... 

ولكن يبقى السؤال ... لماذا هذا الجبل بالذات ... وأين ذهب ...؟

هل عاد إلى مكانه ... أم ارتفع إلى السماء ؟

هذا الجبل الكريم الذي تشرف ... وتنعم بهذه المناجاة القدسية بين رب العالمين وبين عبده الكليم موسى عليه السلام ... هل كان يمكنه البقاء في مكانه بعد انتهاء المناجاة والكلام القدسي ؟

أقول لكم بحق ... لم يكن يمكنه هذا ... لم يكن يستطيع ..... إلا أن في حالة واحدة .... 

أن يذوب ويتفتت ويصير كثيبا مهيلا تذروه الرياح ....

لم يكن شوقه لسماع الكلام القدسي ... يدعه كحالته الأولى التي خلقه الله تعالى عليها ... جبل أشم وراسي...

قال تعالى" لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"21الحشر

فإذا كان هذا البكاء والخشية والتصدع والتفتت من سماع كلام الله تعالى من خلال أمين الوحي جبريل عليه السلام ... 

فما بالك ... بالأثر الهائل الجلل من سماع كلام الله تعالى مباشرة بدون واسطة ....؟

ولولا رحمت الله تعالى التي تداركت هذا الجبل ... الذي طار به الشوق إلى الله تعالى .... فقد أذن له بالصعود إلى السماء لينعم بسماع الوحي مع الملائكة الكرام ...

وقد كان ...فارتفع الجبل وطار وعبر من فوق بين إسرائيل ... في مشهد لا يمكن وصفه من جلاله وعظمته وسطوته حتى خر القوم على وجهوهم ... وكادت قلوبهم تخرج من صدروهم خوفا وهلعا ورهبة.........

ولذلك جاءهم الأمر الرشيد من موسى عليه السلام بأخذ التوراة بقوة ... بمثل قوة الآيات الكونية التي تتابعت عليهم ... وقد كان آخرها طيران هذا الجبل العظيم وارتفاعه إلى السماء في سعادة وسرور لا يوصف .... قال تعالى في سورة الأعراف

"وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"171

ففي الآية الكريمة دليل على أن ارتفاع الجبل وطيرانه لم يكن بقصد إرغام وإكراه بني إسرائيل على اخذ التوراة بقوة العزم... وحتم اليقين ... كما ذكرنا آنفاً ...

لأن الإكراه وما يترتب عليه باطل شرعا وقدرا.... قال تعالى : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"256البقرة   " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَءَامَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ "99يونس