قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٣٨﴾
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ﴿٣٩﴾
لمن الخطاب هنا في الآية الكريمة, ولمن الهبوط؟ وليس هناك تكرار في القران الكريم بالمعنى الحرفي , وإنما مشاهد معادة من زوايا تصويرة مختلفة , تؤدى معنىً خاصاً بسياقه ,إضافةً إلى المعاني الأخرى في السياقات الأخرى , وهذا من إعجاز القرآن البياني , لا يقذف بالمعاني والحكم والمواعظ جملة واحدةً , وينتهى من موضوع أو قضية ما ,ليبدأ في موضوع وقضية أخرى ... وهكذا !
إن القرآن لا يفعل ذلك , ولا يشبه ذلك , إنه ينثر المعاني والحكم المتعلقة بالقضية الواحدة عبر آياته المتفرقة في السور , تشويقاً وإثارة للحس , فتتنوع داخل السورة الواحدة الموضوعات والحكم والمواعظ , تنوع البستان بأزهاره , حمراء وصفراء تسر الناظرين , في نسيج ملتحم يتلألأ بنجوم تومض , كوميض النجوم في السماء , وكل ذلك تيسيراً للذكر , وتقريباً للفهم , وإحياءً للقلب , ومعراجاً للروح , وترويحاً للنفس , ... هكذا وقعها وحسها عند المؤمن , أما بليد الحس , بعيد الفهم , حطيط الهمة , سقيم القلب , ضعيف العقل فيراها مكررة ومعادةً بلا فائدةً , ويرها اختلافا وتناقضاً يشتت الفكر!
وسبحان الله العظيم " يهدي به كثير ويضل به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين " ما نراه في الآية الكريمة أنه خطاب لنا جمعياً نحن البشر , وهذا الهبوط لابد منه لكل واحدٍ منا ,
فقد تم خلقنا جميعاً "كأنفس مصورة" مع خلق آدم عليه السلام , ومنذ ذلك الوقت ونحن في موات مؤقت أشبه بالحياة , فإذا جاءت لحظة البداية لبدء الامتحان , في ساحة الإبتلاء في عالم الحياة الدنيا , يأمر رب العزة والجلال تعالى النفس بالهبوط والتلبس بجسدها المعد لها لضرورة الإختبار , ثم يتفضل عليها المولى تعالى , بإعطائها الدفعة القوية الأخيرة في الإتجاه والطريق الممهد لها والمسخر بين يديها بأسبابه , وهذه الدفعة هي الروح العلوية الطاهرة الزكية التي تنفخ فيها , وهى الفطرة التي ينفطر كل الناس منها وعنها .
ثم ماذا بعد أن يملك الإنسان أمره , ويصبح قيما على نفسه بصيراً , يبدأ إمتحانه , ويجري عليه القلم بكل شيء , ولابد أن يختار بين سبيلين ومسارين إما شاكراً , وإما كافوراً .... القدر يحيط به , فأين المفر , لا وزر , إلى ربك يومئذ المستقر , لا رجوع للوراء , فمحور الزمن يحملنا جميعاً اضطرار وقهراً إلى نقطة النهاية , لآبد من الإختيار , وأن تتحمل عاقبة القرار بنفسك , لا تجزي نفس عن نفسٍ شيئاً والأمر يومئذ لله , وجل الله تعالى أن يقذف بنا في أرحام إمهاتنا بعد الهبوط المقدر المحتوم , ثم يتركنا هملاً بلا منهجٍ ولا دليل , ولكن الله أرحم بنا من أنفسنا بأنفسنا , فقد خاطبنا خطاباً مباشراً , في الزمن الماضي البعيد , بعد خلق أنفسنا وتصويرها , ووعظنا وذكرنا بحقيقتنا , وأخذ علينا الميثاق وأشهدنا على أنفسنا , واعترفنا بعبوديتنا وفقرنا إليه , وربوبيته وقيوميته على كل شيء , وهذا الخطاب هو الذى أحيانا وأبقانا أحياء في عالمنا الأول المجرد , وإن كنا من منظور الحياة الدنيا أموات , ثم منّ علينا مرة أخرى , فنفخ فينا من روحه , كدفعة قوية تغالب طغيان المادة , وتطفئ لهيبها , وأثر باقٍ فينا من أمر الله تعالى , نفيئ إليه كلما استزلنا الشيطان , ونأوي إليه إذا غابت شمس الدليل وجاء الليل البهيم ,... ثم تتابعت المننّ الربانية , وتسابقت إلينا العطاءات الرحمانية , فقد علم الله تعالى ضعفنا , فرحمنا وتفضل علينا بمنهج علوىٌ سماويٌ , منزه عن الأهواء , بل هو العصمة منها , يفيض بالهدى فيضاً غامراً دفاقاً , يجمع شملنا فليس بعده إفتراقاً , يعلي شأننا ويرفع ذكرنا , فيا ويح من حرم , ويا سعد من ذاقا , يهدي للتي هي أقوم , ويحكم بالحق , ويقذف به الباطل فيندحر زهوقا , هو كلام الله تعالى الذى قامت به السموات والأرض , ومن خشيته اندكت الجبال وصارت ترابا, فيا ويح من أعرض عنه , كيف يرجوا سعادةً , كيف ينجوا من طغيانه , أم كيف يهتدي من يمشي مكباً على وجهه , فلا يزداد إلا احتراقا ؟
كتاب الله تعالى المنزل , هو المنهج الأقوم , وهو الصراط المستقيم , من تبعه قاده إلى رضوان الله تعالى والجنة , حيث لا خوف عليهم من أي شيء , لا سقم , ولا موت ,. ولا فوت لكل ما تتمناه النفوس , ولا حزن فيها على شيء فات ومضى , فهم في جنات النعيم , يتساءلون عن الكافرين المجرمين الذين كذبوا بالكتاب وبما أُرسل به المرسلون , هؤلاء الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة , بأعراضهم عن كتاب ربهم شريعة ومنهاجاً , وحكماً قيماً لا عوج فيه , يدعو إلى الحق وإلى صراط مستقيم , فمن اتخذ آيات الله تعالى هزواً , كأن يعتقد أنه كتاب وعظ وإرشاد روحي فقط , ولا شأن له بتنظيم حياتنا الدنيا , كأفراد أو جماعات أو دول وشعوب , فهذا مكذب بآيات الله تعالى ,
التعليقات