ناشدت جندك جند الشعب والحرسا - أن لا تعود فلسطين كأندلسا، البيت الشهير الذي شبه فيه الجواهري مصير فلسطين بالأندلس محاكيا قصيدة ابن الأبار الشهيرة، قد يبدو تصوراً مغرقاً في التشاؤم لأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، ولكن التاريخ لا يعدم أمثلة لحقوق لم يتخل عنها أصحابها لكنهم غلبوا عليها، لذلك فإن تعاقب انتفاضات الفلسطينيين بدون ما يكفي من قوة أو دعم قد لا يؤدي إلى بعض من حقوقهم إلا بعد وقت طويل وتضحية باهظة، ولكن العالم يصر على تجاهل القضية الفلسطينية التي تمثل الحالة الأخيرة لوضعية الإحتلال بسبب استمرار الدعم الغربي المطلق لإسرائيل في مقابل مواقف العجز أو التخلي من قبل الدول العربية والإسلامية التي تمثل الحلفاء الطبيعيين للفلسطينيين.

إن الموقف الغربي من القضية الفلسطينية القائم على الدعم المطلق لإسرائيل دون أي استعداد للمراجعة مهما كانت الوقائع هو موقف غريب ويحتاج إلى تفسير، يعتقد أغلب الناس أن ذلك بسبب المصالح، ولكن ذلك يزيد الأمر غموضاً، فلا يبدو أن هناك مصالح للدول الغربية تضمنها إسرائيل، أو على الأقل فهي لا تفوق مصالحها مع الدول العربية، بل إن ذلك يمثل عبئاً على الغربيين قد خاضوا من أجله الحروب، وقد ألحقوا الدمار بالمنطقة بأسرها من أجل حماية إسرائيل، فضلاً عن كونه متسبباً لهم بأضرار معتبرة نظراً لتحفيزه للكراهية لهذه الدول.

قد يظن البعض أن السبب في ذلك هو دور اللوبي اليهودي، من الواضح أن اليهود يحظون بالنفوذ والثروة في الدول الغربية، والسبب في ذلك هو أن الكنيسة الأوروبية كانت تحرم الإقراض بالفائدة فلجأ المسيحيون إلى الإقتراض من اليهود الذين لا يجب عليهم التزام الشريعة في التعامل مع الأمميين، حيث جاء في التوراة "لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبَا فِضَّةٍ أَوْ رِبَا طَعَامٍ وَلِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا" فأصبحوا مع الوقت كبار الصيارفة ثم أهم مالكي البنوك، وحتى عند ظهور مارتن لوتر مؤسس المذهب البروتستانتي الذي كان كارهاً لليهود وأباح الفائدة، لم يكن ذلك كافية لتعطيل الهيمنة اليهودية على هذا القطاع، ثم بعد اضطهاد اليهود في أوروبا هاجر الفقراء منهم إلى إسرائيل بينما هاجر الأغنياء إلى الولايات المتحدة التي أصبحت مركز رأس المال اليهودي وتحولت بنوكهم وشركاتهم إلى مجموعة ضغط مساندة لإسرائيل بقوة، ولكن رغم ذلك فإن القول بأن اللوبي اليهودي هو السبب الوحيد للدعم الغربي لإسرائيل مبالغ فيه، لأن الشعوب الغربية لو شاءت إنهاء النفوذ اليهودي لفعلت ذلك، ولكن ينظر هناك إلى اليهود على أنهم طائفة ذات دور إقتصادي مهم ومندمجة في المجتمع، ويتفق الرأي العام معهم بسهولة في الإنحياز مع إسرائيل.

إن السبب الأساسي للموقف الغربي من هذه القضية يرتبط بالإنحياز الحضاري وليس بالمصالح أو الآراء القابلة للتغيير، حيث يتعاطف الناس غالباً مع المجموعة الأقرب إليهم، ولذلك تختلف حتى نظرتهم الأخلاقية للقضية عن نظرتنا نحن، لذلك لا تعترف الدول الغربية بالظلم التاريخي الواقع على الفلسطينيين، حيث لا ينظر إلى تهجير ثمان مئة ألف فلسطيني سنة 1948 على أنه واقع شديد الفظاعة فقد سبق للدول الغربية ارتكاب ما هو أسوأ من ذلك، كما تدعي الدعاية الإسرائيلية والغربية أن المهاجرين اليهود من الدول العربية قد وقع طردهم عملياً بسبب تعرضهم للكراهية، وذلك لتصوير الأمر على أنه تبادل سكان وليس تهجيراً من جانب واحد، ومع أنه من غير المعقول مطالبة الفلسطينيين بدفع فاتورة النازية فإنه لا بد في نظر الغربيين من وجود إسرائيل لأن اليهود عانوا سابقاً من الإضطهاد في أوروبا وهم الآن محاطون بالكراهية من قبل المسلمين وقد يواجهون خطر الإبادة إن لم يلتزموا بحمايتهم، وينظرون إلى إسرائيل على أنها دولة معرضة للإعتداء وتواجه إرهاب الفصائل الفلسطينية، في حين أن الفصائل اليهودية التي هجرت غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه سنة 1948 كالهاغانا والإيرغون والشتيرن لم ينظر إليها كحركات إرهابية إلا في بعض الحالات التي واجهت فيه هذه المنظمات سلطة الإحتلال البريطاني في فلسطين، وهو ما يعني أن تصنيف الجماعات الإرهابية لدى الغرب يرتبط بالإنحياز السياسي وليس بمفهوم ثابت للإرهاب، ولذلك لا تتحمل إسرائيل في نظرهم المسؤولية عن نتائج الحرب رغم أن الإبادة التي ترتكبها والتي شبهها نتنياهو بإبادة العماليق الوارد ذكرها في الكتاب المقدس على هذا النحو "فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جَمَلاً وَحِمَاراً" هي أسوأ من كل ما ارتكبته المنظمات الإرهابية.

لكن إذا كانت الدول الغربية مصرةً على ضرورة وجود الدولة اليهودية فلماذا لا يحققون ذلك في جزء من أراضيهم؟ تعتبر الدعاية الغربية أن فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود حيث استمر وجودهم هناك منذ قيام مملكة إسرائيل التوراتية إلى غاية تهجيرهم من قبل الرومان بعد فشل الثورة اليهودية سنة 73 بعد الميلاد، أما الوجود العربي فيصور على أنه طارئ على فلسطين بعد الفتوحات الإسلامية، رغم أنه لا تتوفر أدلة تاريخية لوجود مملكة إسرائيل الموحدة المزعومة في التوراة ولكن قد توجد أدلة عن مملكة السامرة التي كان أهلها يؤمنون بالسامرية بدل اليهودية ويقدسون مدينة نابلس بدل القدس، إلى جانب مملكة يهودا التي دمرها البابليون، ثم سمح لليهود بالعودة إلى منطقة يهودا إلى أن فشلت ثوراتهم ضد الرومان، ويفترض الكثير من الدارسين أن مملكة إسرائيل الموحدة ليست سوى خرافة اختلقها كتّاب التناخ لتعظيم شأن الملوك الأوائل لمملكة يهودا نظراً إلى الإختلاف القائم بين التوراة اليهودية والتوراة السامرية، ولكن كل من المملكتين لم تكن تمثل إلا تجمعات قبلية في جزء صغير من الأراضي الحالية الخاضعة لإسرائيل، وحتى مع افتراض وجود هذه المملكة فإن هناك كثيراً من الأمم الأخرى التي تعاقبت على نفس الأرض كالمصريين القدماء والبابليين والفرس والرومان، فلماذا يحق لليهود دون سواهم العودة إلى هذه الأرض؟ وإن كان من المبرر إعادة حدود المنطقة إلى أواخر العصر البرونزي فلماذا لا ينطبق ذلك على بقية العالم وتصبح جميع الدول في حالة حرب عبثية من أجل العودة آلاف السنين إلى الوراء؟ وكيف يعقل أن يكون حق العودة للفلسطينيين بعد خمسة وسبعين عاماً أقل مشروعية من حق العودة لليهود بعد ألفي عام؟ وما الذي يثبت أن جميع اليهود الآن هم أحفاد اليهود الذين عاشوا في فلسطين في ذلك الزمان؟ وهل يحق مثلا لكل مسيحي العالم العودة إلى فلسطين أيضاً لأنها كانت مهد الديانة المسيحية مثلما يحق ذلك لليهود؟

من الواضح أن هذه المبررات التاريخية تستخدم كذرائع دعائية وليست هي الأسباب الحقيقية للدعم الغربي لإسرائيل، لذلك يبدو أن السبب الحقيقي العميق لذلك هو الموقف تجاه العرب والمسلمين الذين يزداد النظر اليهم في الدول الغربية بطريقة سيئة، وينظر إلى القضية الفلسطينية على أنها تمثل المسلمين المتعصبين، أما إسرائيل فينظر إليها على أنها دولة غربية الهوى وإلى شعبها الذي قدم جزء كبير منه من أوروبا على أنه يشترك مع شعوب الدول الغربية في العرق، فضلاً عن كون اليهودية أقرب إلى المسيحية من الإسلام إذ تمثل التوراة والأسفار اليهودية أي العهد القديم الجزء الأول من الكتاب المقدس لدى المسيحيين الذين يؤمنون بذلك بعقائد مشتركة مع اليهود حيث بدأت المسيحية كمذهب يهودي، ورغم تراجع دور الدين في الغرب فإنه يظل يؤثر على الرأي العام بإعتباره الخلفية الحضارية للشعوب، وحتى أولئك الغربيون غير المؤمنين فإن التعاطف مع ما يرونه التعصب الإسلامي يظل بالنسبة إليهم هو الخيار الأسوأ، وهذا مايجعل الموقف محسوماً بالنسبة إليهم لصالح إسرائيل حتى رغم وجود كراهية اليهود التي كانت أحد أسباب دعم الفكرة الصهيونية للتخلص منهم، فهم غير جادين في دعم حل الدولتين ولذلك لا يطبقونه ولا تعترف الدول الغربية في معظمها بالدولة الفلسطينية، فالمقصود عندهم بهذا الحل هو حشر الفلسطينيين في أصغر مساحة ممكنة من الأرض وإعلان شبه دولة فلسطينية منزوعة السلاح وبلا حدود مع الأردن وغير متصلة جغرافياً وذلك لفصل الفلسطينيين عن المجتمع اليهودي وليس بغرض تحقيق التسوية معهم، لذلك فإن حل الدولتين على أساس حدود 1967 هو حل غير ممكن وطريق المفاوضات مع إسرائيل هو طريق مسدود، حيث أن تنازل إسرائيل عن الضفة الغربية والقدس الشرقية هو أمر مستحيل لأن الضفة الغربية تعتبر في نظر اليهود إسرائيل التوراتية المتمثلة في يهودا والسامرة، أما القدس الشرقية فهي القدس الأصلية التي تحتوي على المواقع المقدسة، في حين أن الأراضي المحتلة سنة 1948 تشتمل على أراضي غير يهودية حتى وفقاً للمصادر اليهودية ولذلك فإن العودة إلى حدود 1967 يعني التنازل عن الشرعية التاريخية المزعومة لإسرائيل.

ولكن لماذا تمتنع الدول العربية والإسلامية عن التدخل؟ يعتقد الكثيرون أن السبب هو الضعف العسكري ولكن في الواقع فإن العديد من هذه الدول لديها قوة عسكرية مؤثرة، أما فيما يتعلق بالأسلحة النووية التي امتلكتها إسرائيل بفضل الدعم الفرنسي فإنه يوجد في المقابل دولة إسلامية على الأقل تمتلك قوة الردع النووي، ولديها من الأسلحة النووية ما يفوق الترسانة الإسرائيلية، أما إذا كان يعتقد أن السبب لذلك هو الضعف الإقتصادي فإن ذلك أيضاً لا يبدو في محله، حيث استخدم سابقاً تخفيض إنتاج النفط كوسيلة ضغط فعالة، من المفهوم تجنب المواجهة الشاملة مع إسرائيل لأنها ستكون مدمرة، وليس بإستطاعة دولة منفردة أن تخوضها، لكنه قد يكون من الممكن إلحاق الهزيمة بإسرائيل بطريقة أخرى عن طريق أن تتفق الدول الإسلامية على تنفيذ الحصار الكلي لإسرائيل حيث يمكن أن يسمح موقعها الجغرافي بذلك، إلى غاية التمكن من فرض الحلول العادلة، أو على الأقل التدخل المحدود لإنهاء الإبادة، دون التعرض إلى الغزو في حال توفرت القوة الردعية عن طريق تشارك هذه الدول لقدراتها العسكرية ووسائل تأثيرها الإقتصادي في إطار تحالف متماسك لا يمكن أن يكون بأسره هدفاً لحلفاء إسرائيل في وقت واحد، لقد سبق أن هزمت أعتى القوة العسكرية بمثل هذه الطريقة مثل هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى بسبب حصار البلطيق رغم سيطرتها عسكرياً على أراضي الحلفاء، أو المقاطعة الدولية التي أسقطت نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، لكن هذا الخيار صعب التنفيذ بسبب كون الدول الإسلامية متخاذلة وغير متعاونة، لذلك فإنه لا بد من نشر الدعاية الإيجابية للتأثير على المجتمعات للضغط على حكوماتها ودفعها لفعل ما يجب فعله، فإن التخلي عن الفلسطينيين في هذا الظرف قد يؤدي إلى نكبة جديدة ستجعلها تحمل العار الأبدي للأجيال اللاحقة، أما الدول الغربية فستستمر في عدائها لشعب صغير مستضعف وكأنها بذلك تحقق نصراً عظيماً، ثم ستعيد طرح خدعة المفاوضات وحل الدولتين المزيف ثم تحمل الفلسطينيين المسؤولية عن رفض ما لا يمكن قبوله.