يجلسُ الحاج سليمان بيجّالي "أبو فايز" صاحب الأربعة وسبعون عاما على السلسة الحجرية المحيطة بأرضه في أحراش بيت جالا، بينما يجولُ ببصره بين أثارِ الزيتون المقتلعة، على بعد عدة أمتار من سلك شائك على شكل سور، وضعه الاحتلال ليصادر من خلاله ويفصل المزيد من الأرض الفلسطينية لصالح مشروعه التوسعي" القدس الكبرى".
العشرات من أشجار الزيتون اقتلعتها جرافات الاحتلال من أرض أبو فايز، الذي وقف متأملا بحزن، وقال بنبرة غضب: أصغر شجرة في هذه الأرض أكبر من عمر الاحتلال، تعود معظمها إلى العهد الروماني في القرن السادس الميلادي".
يحمل أبو فايز فأس ويغرسه في الأرض، في ضربة تحدٍ للزمن وتحولاته، أمام هذه الجرافات وعربدات الجيش ومستوطنيه، يواجه وحيدا، بذاكرته التي تحفظ كل شكل شجرة منذ كانت شتلة صغيرة إلى أن كبرت واثمرت، وبدنه الذي أخذ في الوهن مع التقدم في العمر، يواجه وحيدا فم جرافة لا تدرك تعب المزارع وثروته من الأرض التي تشكّل عرضه ورأس ماله، أو تدرك ولذلك تهدم وتقلع وتجرف.
يعتاش أبو فايز من الأرض، التي خسر أكثر من نصفها حتى نهاية العام 2020 بفعل المصادرات المتكررة، واليوم كل ما تبقى له هو 10دونم من أصل أكثر من 22 دونم.
كما يصر ، على الوصول لما تبقى من أرضه، واستصلاحها مجددا، والتمسك بكل ذرة تراب فيها، لأنه كما يقول: لا أجد حياتي إلا في الأرض، منذ كنت طفلا علمني والدي التمسك بها، وكان يأخذني على الحمار لنحرثها ونزرعها، منذ خمسينات وستينات القرن الماضي.
يتابع أبو فايز وكأنه يحاور أطلالَ الأشجار والسلاسل الحجرية: ورثت الأرض عن أبي، الذي ورثها بدوره عن جدّه، والتي يعود تاريخها إلى مئات السنين، وما يميّزها هو قربها من دير كريزمان المهدد وما يحيطه من الأرض من قِبل الاحتلال ، وهو مصنع لإنتاج النبيذ يعود تاريخه إلى ما قبل 132 عاما. ويروي لنا أنه بالإضافة إلى القيمة الرمزية لشجرة الزيتون لكل فلسطيني، فإن تميّز طعم الزيت في بيت جالا كان له درو كبير في استمرار تخصيب الأرض، وحرثها والعمل على إعدادها سنويّا، فعمِل هو ووالده ثم هو وأولاده عليها حتى أصبحت أحد أكبر بساتين الزيتون في بيت جالا، بالإضافة إلى احتواء الأرض على مكونات جيولوجية أثرية مثل الكهوف والمُغُر التي تعود لحقبٍ زمنية وتاريخية وحضارات تعاقبت على احتلال فلسطين والسكنِ فيها، مما جعل هذه الأرض كغيرها من الأراضي الفلسطينية مطمعا للاحتلال الإسرائيلي، الذي يحارب الحجر والشجر ويحاول زرع نفسه بدلا منه في أمكنةٍ تلفظه وترفضه. ويضيف مستذكرا الأيام التي كانت فيه الأرض بستانا صغيرا، يُجمّع مع والده النقود العائدة من بيع حليب الأغنام ومشتقاته، ليشتروا أشتال الزيتون ليشجّروا الأرض، وأنه قلّمها بالشجرة، وسمّدها وأطلق على كلّ شجرةٍ اسما كأنها بنتٌ من بناته، ومن أسمائهن "الروميّة، الخضارية، السّمرة، والعروس" ويوردُ حادثةً طريفة عن شجرة العروس، فيقول "كان السكان المجاورين لأرضي يتّخذون منها مكانا للمشاوي، وإقامة الاحتفالات، وبعد توبيخهم وتحذيرهم مرارا وتكرارا، لم يجدِ الأمر نفعا، ففكرتُ ثم اختلقتُ قصّةً أنه في أحد الليالي التي بِتُّ فيها في الأرض وعندما انتصف الليل، أحضر الجن عروسا وزفّوها تحت هذه الشجرة، وأقاموا الاحتفالات حتى صياح الديك ثم انصرفوا" ويضيف "طبعا أنا مثّلت مليح يومها إني مريض من الصدمة وظلّت البلد تحكي في الخرّافية سنين وسنين".
ويتابع بابتسامةٍ يشوبها العجز، كيف كانت المغُر في هذه الأرض مأوًى للثوّار، وزيتها وزيتونها قوت يومهم، وكم ساهمت أثناء الانتفاضة الأولى في مساعدة أهالي البلدة على الإكتفاء الذاتي من خير الأرض، وكيف بارك الله في ثمرها فأصبحت في سنة "الماسية" تنتج ما يزيد عن 90 إلى مئة تنكة، ويوضّح أن التهديدات كانت تطاله دائما نتيجة احتماء الثوار في كهوفها، وحذّروه مرارا من عدم التستر على المجرمين حسب رأيهم، فكان يجيب بأنها ليست منزله كي يمنع أحداً من الاختباء فيها وهو ليس "ناطور" ليراقب كل سائرٍ في أرضه، ويضيف أن اقتحامات الجنود للأرض تكرّرت في السنوات الأخيرة، كما أنهم كانوا برفقة طاقمٍ متخصص، يأخذ عيناتٍ من الزيتون، والتراب، والأحجار، ويشن هجمةً تفحصيّة على الكهوف الموجودة بعدساتهم المكبّرة وأدوات فحص حديثة، بحماية الجنود.
يقفُ متجوّلا في الأرض وهو يهزّ السلك الشائك الفاصل بين تراب الأرض الممتد بشكلٍ يعاند أي محاولاتٍ لفصلهِ عن جسدِ الأرض الأكبر، ينحني بسنواته وجسده ممسكا حفنةَ تراب ثم يتركها تنساب من بين أصابعه، ثم يتابع حديثه كأنه يحاور التراب لا المجموعة المحيطة به فيقول" هذه الأرض كانت العائل الاقتصادي الأكبر والذي يعتمد عليه هو وأبناؤه لسد احتياجات حياتهم، فتعلّموا في الجامعات من عوائدها، وتخرّجوا، ثمّ وظّفوا إمكانياتهم وتخصصّاتهم في تطوير الأرض واستثمروا فيها وأدخلوا الوسائل التكنولوجية الحديثة في تحسينها وتحسين إنتاجها، ثمّ أنها تشكّل بالنسبة للعائلة قصّة عَرقٍ وجهدٍ ونجاح وقيمة رمزية تعادل الاقتصادية منها، فعليها نشأوا، حيث امتزج عرقهم بترابها سنين طويلة تحت شمس الظهيرة وهم يكدّون ويعملون بلا كلل أو ملل، حتى صنعوا منها حكاية نجاحٍ بعدَ سنواتٍ مضنية من الزرعِ والحرث والتعشيب والتقليم، والتسميد، ثمّ وبقرارٍ قضائيٍّ ظالم سُرقت سنواتٌ طويلة من التعب والاجتهاد، بحجّة أن هذه الأرض قريبة من نقطة تماس مباشرة مع المستوطنة المحاذية لبيت جالا وتدخل في نطاق أراضٍ يرسم الاحتلال منذ سنوات للإستيلاء عليها، وهي اليوم منطقة عسكرية مغلقة يمنع منعا باتا الوصول إليها من قبل أصحابها الأصليين لأنه أصبحت أراض يسميها الاحتلال "ملك دولة". وينهي أبو فايز حديثه أثناء نقله وأبنائه شتلات الزيتون الجديدة: هكذا وبكل بساطة تحول تعبنا وشقانا بأرضنا، إلى ملك وأرض للغير، لبناء وحدات استيطانية أو شق طرق التفافية أو لأغراض عسكرية، توقيع بثوانٍ قليلة من حاكم الإدارة المدنية، التغت بصمتنا التي طبعناها بعرقنا لسنوات طويلة. هل يوجد قهر وظلم أكبر من هذا في حياة الانسان؟ ولكن رغم هذا لن نكل أو نمل وستظلّ الأرض لنا تنطقُ باسمنا ، فالتراب يحنّ إلى أهله والأرض لن تتلقّح أو تتحدث بغير اللغة العربية.
(الصورة رمزية)
التعليقات