لم أقترب من هذه القصة بوصفها مأساة شخصية، بل كنموذج متكرر رأيته في بيوت كثيرة، بأسماء مختلفة ونبرة واحدة. أبٌ قاسٍ لا يرى في قسوته مشكلة، وابنٌ يرفض هذه القسوة دون أن يمتلك اللغة اللازمة لشرح سبب الرفض. العلاقة بينهما لا تُدار بالمشاعر، بل بالقوة الرمزية: من يضع القواعد، ومن يُجبر على التكيّف معها.
قساوة الأب لم تكن انفجارًا، بل انتظامًا. لم يصرخ كثيرًا، لم يضرب غالبًا، ولم يحتج إلى تبرير نفسه. كان يؤمن أن التربية عملية تصحيح مستمر، وأن الليونة تؤدي إلى الانحلال. في الحياة اليومية تظهر هذه القساوة بأشكال بسيطة: قرار يُتخذ نيابة عن الابن، رأي يُلغى لأنه “غير ناضج”، خطأ يُسجَّل ولا يُناقش. هذه ليست لحظات عابرة، بل بيئة كاملة تُبنى على فكرة واحدة: السيطرة تسبق الفهم.
من منظور علم النفس، هذا يُصنَّف تحت التربية السلطوية، حيث يُكافأ الامتثال ويُعاقَب الاختلاف. النتائج معروفة: طفل منضبط ظاهريًا، قلق داخليًا، قليل الثقة بحدسه. لكن الأب لا يرى النتائج، يرى فقط النظام يعمل. النظام بالنسبة له دليل نجاح، مهما كان الثمن الداخلي.
الابن، بالمقابل، لم يكن هشًا ولا مدللًا كما يُحب الأب أن يصفه. كان ببساطة غير قابل للتكيّف مع هذا النوع من القسوة. هنا تقع المفارقة: بعض الأبناء ينكسرون، وبعضهم يتصلّب، وبعضهم يرفض الانصهار كليًا. هذا الابن لم يتقبّل القسوة لا لأنها مؤلمة فقط، بل لأنها ألغت وجوده كذات. عدم التقبّل هنا ليس تمردًا أخلاقيًا، بل فشلًا بيولوجيًا في التكيّف مع بيئة خانقة.
في الحياة اليومية، يظهر هذا الرفض بسلوكيات صغيرة: صمت طويل، تأجيل دائم، انسحاب مفاجئ، أو غضب غير متناسب مع الموقف. علم النفس يسمي هذا “مقاومة سلبية”، حيث يعجز الفرد عن المواجهة المباشرة، فيختار التفكك البطيء. الأب يفسّر ذلك كعناد، الابن يعيشه كاختناق.
ناقشتُ الأب. كان منطقه متماسكًا، بل ومقنعًا لمن يؤمن بالتراتبية. قال إن القسوة تصنع رجالًا، وإن العالم لا يرحم، وإنه لو لم يفعل ذلك لفعلته الحياة بطريقة أسوأ. لم يسأل يومًا: أي رجال؟ ولا أي عالم؟ كان مقتنعًا أن الألم المدروس أفضل من الفوضى غير المتوقعة. هذه القناعة هي جوهر المشكلة، لأنها لا ترى الابن، ترى نسخة مستقبلية صالحة للاستخدام.
الابن، حين سُئل، لم يقدم نظرية. لم يتحدث عن مبادئ أو فلسفة. قال فقط إنه لا يستطيع العيش بهذا الشكل. هذا الجواب يُزعج الآباء السلطويين، لأنه لا يُناقَش. لا يمكنك دحض “لا أستطيع”. إنه حكم نهائي صادر عن الجسد قبل العقل.
حين غادر الابن البيت، لم يكن ذلك إعلان حرية، بل إنهاء تجربة. الأب لم يشعر بالفقد العاطفي بقدر ما شعر بخلل في البنية. شيء خرج عن السيطرة. شيء لم يعد في مكانه الطبيعي. بحث عنه لاحقًا، ليس بدافع الاشتياق، بل بدافع الاستعادة. في العقل السلطوي، ما يخرج يجب أن يعود، أو على الأقل أن يُفهم سبب خروجه، كي لا يتكرر الخلل.
من منظور نفسي، هذه اللحظة كاشفة: الأب لا يلاحق الابن، بل يلاحق انهيار صورته كسلطة كاملة. والابن، حتى وهو بعيد، لا يشعر بالتحرر الكامل، لأن القسوة التي رفضها خارجيًا، تركت أثرها داخله. القسوة لا تحتاج حضور صاحبها كي تعمل، يكفي أنها زُرعت مبكرًا.
هذه ليست قصة سوء نية، بل قصة سوء فهم بنيوي. أب يعتقد أن القسوة أداة، وابن يثبت بجسده أنها سمّ. لا يوجد حل وسط هنا، ولا مصالحة نهائية. هناك فقط حقيقة باردة: ليس كل ما يُنتج نظامًا يُنتج إنسانًا. وليس كل من يرفض القسوة ضعيفًا؛ بعضهم فقط غير قابل لأن يُكسَر دون أن يختفي.
التعليقات