يعجبني جدًا قول الرافعي في أوراق الورد:

قد يكون في الدنيا ما يُغني الواحد من الناس عن أهل الأرض كافة، ولكنَّ الدنيا بما وسعت لا يمكن أبدًا أن تُغني محبًا عن الواحد الذي أحبه

أعرف أن الرافعي قد قال هذه الكلمة ويقصد بها ميّ زيادة -متعبة الكبار-، ولكن أنا وظفتها توظيفًا آخرى مغايرًا بعض الشيء، ولكن على نفس الفكرة.

الرافعي يقصد أن هناك واحدًا يُغني عن جميع الناس، وربما جميع الناس لا يغنوك عن هذا الشخص؛ فالعبرة ليست في العدد، بل العبرة بالقدر والفضل والمنزلة.

هناك أشخاص في الحياة أقدارهم عندنا ليس كباقي الناس، ولا نستطيع أن نعطيهم تقيمًا معينًا، لأن هؤلاء الناس خارج التقيم، بل هم الذين يُقيّمون الناس، ونحن نستمع إلى تقيمهم ونتبعه.

هؤلاء الناس هم أصحاب العقول الراجحة، والأذهان الثاقبة، عرفنا ذلك عنهم من كثرة الأراء الصائبة التي قالوها، ومن كثرة تفسيراتهم الصحيحة لكثير من الأمور.

هذا الصنف من الناس عندما يقول لك رأيًا في موضوع ما، لا تتعداه، فإن أمروك بأمرًا فامتثله، وإن نهوك عن شيء إياك أن تقترب منه.

للأسف هذا الصنف قليل جدًا، بل نادر كحال كل شيء نفيس وقيم لابد أن يكون نادرًا.

وهناك صنف آخر على خلاف ذلك، آراءهم لا تتجاوز ألسنتهم، لا تصل إلى أذنك فضلاً عن أن تصل إلى تفكيرك.

هؤلاء هم أصحاب العقول الخفيفة، والأذهان الرديئة، مهما يقولوا لك من قول لا تسمعه، ومهما يأمروك بأمر لا تأتمر به، وإذا نهوك عن شيء لا تنتهي عنه.

هؤلاء ثبت عندنا سوء آراءهم، من كثرة أخطاءهم في تقدير الأمور، وسوء التصرف، وخطأ التفسير.

لذا ففرّق بين الصنفين؛

الصنف الأول: أصحاب العقول العامرة؛ أمسك عليهم بالأيدي والأسنان، لأن رأي أحدهم بمئات الأراء من غيره.

والصنف الثاني: أصحاب العقول الفاسدة؛ اجعل بينك وبينهم حواجز ووديان، لأن رأي أحدهم لا يساوي في الأراء القيمة شيء.