كارما الحياة

🌕🌕☕

في المقهى المُعتاد لطارق، ذاك الذي يحوذ أنفاق منتهيه بصخور تتساقط مِنها شلالات مياه ويتخللها أسماك كواي

كانت سمر… كانت الحياة. 

-ما الذي أعادِك لذات المكان؟ هل افتقدتي تِلك الأيام؟ أم تحوّل تامر عليكِ؟ 

ابتسمت سمر رغماً عنها، حين اقتحم عليهم الجلسه شخصاً غريباً 

-مع مَن تتحدث الآن! سمر مجدداً؟ 

رد طارق مستنكراً فعلت ذلك الشخص:

-كيف لك أن تعرف اسمها؟ ومَن انت؟ 

-لاتقلق انا صديقك 

-لااعرفك ولاهي (حوَّل نظره لِسمر من أمامه) اتعرفيه؟! 

-لا 

عاد طارق بنظره للشخص، لكنه اختفى من أمامِه 

-لِم عُدتي، ألم يكفيكِ ما يحدث!! 

-لم أعُد بعد يا طارق 

كانت أنفاسهما تتلاحق، والهواء من حولهما يضيق كأن الحياة ضاقت على سرّهما.

تقدّم خطوة وعينيه تُفتّشان وجهها كما لو كان يبحث عن بقايا الأيام التي فرّت مِنهما.

رفعت رأسها بثبات مُصطنع، وصوتها يخرج كطعنة حادة ممزوجة بحرارة شوق مكتوم:

ـ ارحل انت.. 

انعقد حاجباه، واقترب أكثر، وصوته يتهدّج بدهشة:

ـ أنتِ… لا تريدينني؟ لم عُدتِ إذاً لا افهم

لم تُجبه، لكن عينيها خانتاها؛ إحداهما صلبة كالجدار، والأخرى تنطق برغبة متهوّرة في البقاء.

عالِق الردّ في حلقها، ثقيلًا كاعتراف لم يُولد، بينما ظلّ هو يحدّق فيها وكأنه يحاول قراءة لغزها.

كانت النظرات بينهما أشبه ببوابة مفتوحة على عالمين متناقضين… عالم يريد الهروب، وعالم يتوسّل البقاء

تعالت الأصوات مِن حوله الجميع يصرخ بصوتٍ عال، ظّل ينظر مِن حوله ويهمس اولاً:

- اهدأوا 

ثم اعادها بصوت عالٍ نسبياً :

- اهدأوا قليلاً

لكن الصراخ و الضجيج لم يصمت فتحولت إلى نوبات :

-اهدأوا.. الرحمه اهدأوا

ظل يُغطي اذنه بيده ويضرب قلبه ورأسه صراخه يتعال:

 -اهدأوا اهدأوا

في تِلك اللحظه دخل هاني ومجموع مِن حوله انتشلوه مِن انهياره 

صرخ طارق مُتمسكاً بيد هاني :

-اجعلهم يصمتوا.. اصواتهم برأسي، ضجيجهم عال

حتى هدأت تِلك الأصوات وهدأ معها طارق، مِن إحدى غُرف مستشفي الدكتور سليمان فقيه لعلاج الاضطرابات النفسية في الرياض. 

...

في غرفة الضيافه جلس هاني ومِن أمامه الدكتور تامر المتخصص المُتابع لحالة طارق :

-حالته تسوء يا دكتور، اشفق على حاله لم يكن كذلك يوماً (تحدث هاني) 

-الاضطراب الوهمي ليس مِن السهل السيطره عليه، بالتحديد أنه بدأ التحدث مع نفسِه وقت وفاة صديقته سمر 

-لولا أنها ماتت يا دكتور لدعوت عليها و لعنتها، كان فاه شؤم يوم رأيناها 

-آبشر.. هُناك فتاه تمر عليه بين الحين و الآخر ترفض الإدلاء بإسمها لكن الجمله الوحيده التي تقولها "دعه في الوهم نجاةً له". 

-من هذه الأخرى، لا اذكر طارق تعرف على فتاة غير سمر في حياتِه

-حقيقة ليس لدي عِلم، انتظر قدومها وسأطلبك حينها 

…. 

كان طارق في غرفته يتحدث للفراغ المُشكل بهيئة سمر:

-تمنيت الوصول لك (هدوء طغى عليه) لكن أعلم أنكِ لست أمامي… 

إنكِ هُنا فقط (اشار بيده المجروحه مِن محاولات الانتحار إلى رأسه) هُنا فقط، اعلم ذلك..

لا تنظري لي هكذا، انتِ ايضاً اخطأتي بحقي

تركتيني وحيداً، وحيداً تماماً 

تتذكرين يوم اخبرتك بحفل زفافنا، ورفضت إقامة واحداً على عكسِك أنا.. 

أنا لا أملِك صديق ليحضر زفافي، لذلك رفضت الحفل

الآن سأموت ولن يحضر أحد جنازتي

أنا وحيدًا للدرجة التي جعلتني اتساءل من سيحضر جنازتي لا فرحي، ويقيناً لم يكن ليحضر أحدهم الاثنين 

أُريد محوك مِن عقلي، لكني لا استطيع 

تعلقت بِك بشدةٍ فقدت بها ذاتي، فلا أنا ذاتي القديمه ولا املك ذاتٍ لأمضي بِها قدماً في الفضاء..

وتعلمين.. أكره الكذب وأكره فكرة نسيانك..

حدث كُل شئ سريعاً خُطفنا مِن بعضنا سريعاً

لكنني تعِّبت الكر والفر، تعبت رؤيتك في الفراغ ولا استطيع لمسِك

تعِبتك للحد الذي جعلني اكره حياتي وألعنها 

.. 

صوت أقدام مِن خارج غرفته.. 

استطاع التعرف على الخطوات إنها قدمي المُمرض ومن خلفه هند

داومت هند على رؤيته، اعتقدت دوماً أنه لم يستحق ذلك 

كونها الوحيده المُقربه لسمر كانت تعرف كل شئ ايضاً عن طارق

حاولت مره التقرب مِنه بتوصية الطبيب، لربما ينسى سمر بها 

لكن لم يزيد تِلك الخِطة إلا مُحاولة انتحار جديده، حينها رأت هند مايراه طارق و هو "طوق الوهم". 

كانت سمر على حق حين قالت أن في الوهم نجاة له 

لكن هند لم تتوقع القادم.. 

حين دخلت عليه الغُرفه تتحدث معه عن اخباره وعن سمر وما وصل إليه بخياله ذلك اليوم، سمعت كلمات طارق:

-اعرف انك هند، صديقة سمر.. أعرف أنك تحاولين مساعدتي على التعافي، اعرف اني مريض.. مريض بسمر

انتفضت هند مِن مكانها و تراجعت خطوات للخلف مُقتربه للباب خشيةً مِنه بذاك الهدوء الظاهر عليه وتحدثت بهدوء :

-طارق!! 

-نعم طارق يا هند ،طارق ابن الثلاثون عاماً الذي وقفت حياته بعد الجامعه، بعد وفاة حبيبته سمر.. (ادمعت عينيه تساقطت قطرات صغيره مسحها بكتفه الأيسر) وقتها توقفت الحياة بالنسبة لي.. 

-ساعدنا يا طارق، ساعدني على شفاءِك

ابتسم طارق مُطلقاً ضحكه داخليه، استغربت مِنها هند 

نظر لها وقال:

-اتعلمين! تِلك الكلمات جعّلت سمر تقولها، سامحيني يا هند 

-اسامحك على ماذا؟ طارق.. 

-هند اعينيني، اخرجيني من نفسي 

-يا اللّه يا اللّه.. أهلاً بِك مرة أُخرى

ضحك طارق رغماً عن دموعه المنهمره، استدعت هند الطبيب الذي ظهر ومعه هاني من جانبه 

بالطبع لن اُخبركم بالنهايه لأنها اتضحت الآن، خرج طارق من المستشفى وتزوج من هند 

اجتمع طارق وهاني بعدد من الأصدقاء ليصبحوا مُقربين بمرور الوقت 

مرت الحياة بسعاده للجميع في ظِل تعافي طارق و الأهم.. 

رقدت سمر في قبرها بسلام 

… 

أحياناً تُجبرنا ضغوطات الحياة على أفعال لا قُدرة لنا على السيطره عليها أو تصويبها، لكن الحياة تمضي.. 

الحياة تمضي بأيامِها، مِن حق الجميع الشعور.. الشعور حس لابد منه 

لكن لا تُفاقمه، فتِلك الحياة لا ترحم أحداً 

كارما الحياة لا تُفوت أحداً

☕🌕

وما أن انتهت حتى بدأت من جديد