البارحة ليلًا تبادرت إلي فكرة مشاهدة حلقة من المسلسل السوري الناقد"المرايا" بطولة الفنان العظيم ياسر العظمة، لربما عندما يأتي على ذهنك مسلسل المرايا، ستحنّ للماضي وستتحسر على أيام الغوالي، حيث العائلات تجتمع أمام التلفاز لمشاهدة هذا المسلسل الرائع.
الحلقة كانت فكرتها "الرهان"، ربما لم أشاهدها مسبقًا ولكن حقيقًة عادت بذاكرتي إلى الوراء، إلى أيام الثانوية العامة، حيث مقرر اللغة الإنجليزية يحتوي على قصة الرهان للرائع أنطون تشيخوف. ويبدو أن فكرة الحلقة تُشبه فكرة الرهان في تِلك القصة أو هي مُقتبسة منها أصلًا، ولكن بمشاهدتي للحلقة شعرتُ فعلًا أن الفنان ياسر العظمة أبدع في تمثيله، حتى أنني تساءلتُ؛ كيف لِمثل هذا الفنان أن يرتقي بذهن المشاهد ويُنمي خياله مثلما فعلت بي القصة أثناء قراءتي لها في ذلك الوقت وربما أكثر من ذلك!
أعود إلى تفاصيل الحلقة حيث المحامي يحيى (ياسر العظمة) وصديقيه رياض (بسام دكاك) وطالب (عصام عبه جي) يذهبون إلى زيارة صديقهم الثري أسعد (بشار اسماعيل) في إحدى الليالي لقضاء سهرة ليلية، الأمر المُلفت للنظر أن سهرتهم تناولت موضوعًا لطالما كان محطًا للنقاش ومثارًا للجدل وهو أيهما الأكثر إنسانيًة؟ حكم الإعدام أم السجن مؤبد الحياة؟!
المحامي يحيى يؤيد فكرة السجن المؤبد ويفضله على حكم الإعدام، فحكم الإعدام بنظره جائر، يقضي على حياة الإنسان بكلمة واحدة في حين أن صديقه أسعد يرى العكس تمامًا. فبنظره أنّ حكم الإعدام موته سهل وسريع، ينهي عذاب الإنسان بثواني قليلة على العكس من الحكم المؤبد الذي وصفه بالموت البطيء حتى يرى أن من يختار السجن المؤبد قد يأتي يومًا ويضع حدًا لحياته من خلال الانتحار.
لا يُمكن أن نتخيّل أن يتم تخيير الشخص بين خيارين كلاهما أسوأ من الآخر، برأيي أنّ هذا غير اخلاقي تمامًا، لكن هذا ما حدث حقًا عندما قام الثري أسعد بتخيير المحامي يحيى بين عقوبة الإعدام والسجن مدى الحياة، وهذا ما استهجنه الصديقين الآخرين (رياض وطالب، لكن المحامي يحيى اختار السجن مدى الحياة.
الأمر المثير للدهشة والغرابة وربما لا يتوقعه البعض أن الثري أسعد قام بمراهنة يحيى على حياته مقابل ثروته، حيث سيدفع أسعد للمحامي يحيي 250 مليون ليرة سوري مقابل أن يعيش في غرفة مُظلمة منعزلًة تمامًا عن الآخرين (وكأنها حبس إنفرادي) لمدة 15 عامًا، والذي قد يستغربه البعض هو موافقة المحامي يحيي على هذا الرهان. قد نتساءل، هل يمكن للمرء أن يعيش في غرفة واحد لا يخرج منه البتّه لمده 15 عامًا؟ ولنفترض أننا مكثنا عامًا وعامين فيها، ألا يُمكن أن نُصاب بمرض نفسي وربما البعض قد تغذي عقله فكرة الانتحار؟!
لكن يبدو أن المحامي يحيي أرد أن يعيش في هذه الغرفة، يكتب ويغوص في قراءة روايات دوستويفسكي وكتب تشيخوف و جنكيز أيتماتوف وغيره من كتب الأدب الروسي وهذا ما اشترطه على الثري أسعد عندما طلب منه بتزويده بالكتب في حين أنه لن يخرج من غرفته لمدة 15 عامًا حتى لو قبل ربع ساعة من الموعد المتفق عليه لنيل حريته.
تمضي السنين وتمر أحداثًا في حياته مأساوية مثل وفاة أخته التي يعلم بوفاتها من خلال رسالة ترسل له، فما بين قراءة الكتب التزود بالقافة والغناء؛ تمضي حياة المحامي يحيى.
بعد الموعد المتفق عليه لخروج المحامي يحيى بربع ساعة، يخرج يحيى ويخسر الرهان ولكن كتب في رسالته لأسعد:
صديقي المليونير أسعد، لم يكن هدفي عندما استضفتني في سجنك إلا النيل منك ومن ثروتك والحصول على هذا المبلغ الذي اتفقنا أن تدفعه لي عند انقضاء 15 عامًا وصبرت في سبيل تحقيق ذلك كثيرًا أعواما ً طوالًا ولكنني قبل انقضاء الوقت كله بنصف ساعة قررت الانعتاق من سجني والانطلاق إلى الحياة فقيرًا معدمًا لا أملك من حطام الدنيا قشة واحدة ولا نصير لي فيها ولا معين إلا أنني خلال سجني لم أجد مؤنسًا لي غير الكتاب فأقبلت ألتهم الكتب التهامًا وكأنها غذائي وكسائي طعامي وشرابي حلقت في قراءاتي بغيب الكون وفي مجاهل الطبيعة وفي مختلف الأمصار والاسقاع والبقاع قرأت التاريخ والجغرافية والفلسفة والطب والعلوم الإنسانية تبحرت بالتاريخ قديمه وحديثه وعجبت من مصائر الدول ومن سطوة الحكام وأكبرت بطولة الشعوب استغرقتني كتب الجغرافية فإذ بي أطوف حول العالم وأصعد الجبال وأهبط الوديان وأتأمل صنع الله وأنا قابع في مكاني تعلمت سبعة لغات أجنبية حية وقرأت بواسطتها معظم التأليف الأجنبية واطلعت على الآداب الإنسانية والعلوم الكونية والروايات الأدبية والفنون العالمية تعرفت على إبداعات العقل البشري أحببت كرهت سافرت حلمت عشت الحياة بكل تفاصيلها وما شعرت يومًا أني مسجون أسير بل حرٌ طليق أتجول كيف أشاء وأطير بأي سماء قرأت معظم ما أنتجه العقل البشري قرأت تاريخ الأديان وعرفت الله توحدت ُ معه وسبحت بحمده وصرت قريبًا منه أكثر أنا لم أخسر أنا الرابح بكل تأكيد لم تعد تهمني ثروتك وزاد احتقاري للمال إذ هو الغاية إنني أرثي لك أيها العابد مالاً وأشكرك لأنك كنت سبب في حصولي على كنوز المعرفة وداعًا وليهنأ كل بفوزه
بدأت مشدوهة تمامًا أمام ما قام به المحامي يحيى وما كتبه في الرسالة وبدأت تراودني تساؤلات، هل استحق أن أمكث في سجن لمدة 15 عام بحجة أنني سألتهم الكتب وسأصبح شخص مثقف وسأحصل على كنوز المعرفة، ربما هو رأي نفسه جال العالم وتعرّف على الكثير من الدول وعاش تفاصيل الحياة لكنه برأيي بقي سجين، لم يقضي حياته مع أخته الوحيدة التي بقيت بدون سند في الدنيا وتوفيت بدون أن ترى وجه أخيها!
وأنت..أيهم الخيار الجائر، الإعدام أو السجن المؤبد؟ وهل ترى أن ما فعله المحامي يحيى يعدُ صحيحًا؟
التعليقات