كلب بافلوف والريلز هذا عنوان اخترتهُ ليس على سبيل السخرية، ولا العبث، بل هو إشارة دقيقة إلى آلية خفية، تُحرّكنا كما يُحرّك الجرس لعاب كلب العالم الروسي إيفان بافلوف، في تجربتهِ الشهيرة على الاستجابة الشرطية…
بافلوف اكتشف أن الكلبَ إذا ما اعتاد اقتران رنين الجرس بموعد تقديم الطعام، فإن لُعابه يبدأ بالسيلان لمُجرد سماع الجرس، حتى في غياب الطعام. إنها الاستجابة المُشروطة… لكن الكارثة اليوم أننا لسنا نتحدث عن كلب… بل عن الإنسان المعاصر أمام شاشة الهاتف، يُساق بلا وعي نحو الريلز، تلك المقاطع القصيرة التي لا يتجاوز طولها الدقائق، ولكن تأثيرها قد يمتد إلى ساعات من البلادة والقلق والشرود.
نحن اليوم في زمن "التمرير القهري"، حيث الإصبع يُنزلق آليًا، والعقل يطفو بلا مقاومة… كلُّ ريلز هو جرسٌ جديد… وكل جرس يستدعي استجابة مشروطة من نوع آخر: ضحكة سريعة، دهشة مفتعلة، أو إحساس عابر بالانتصار أو الشفقة… لكنها كلها لا تُغذّي النفس بشيء، كما لم يُغذِّ الجرسُ كلب بافلوف بأي طعام…
الخطير في هذا الإدمان أننا نُعيد تشكيل أدمغتنا من الداخل… فكما يُعيد الدماغ تنظيم نفسه وفقًا لما يُمارسه يوميًا، فإننا بتكرار هذا النمط من الاستجابة السطحية، نُصبح أقل صبرًا على كل ما هو طويل: كتاب، محادثة، تأمل… نُصاب بعسر في التركيز، وفرط في القلق، ونفاد في المعنى.
ثم إن هذا السيل اللامتناهي من المقاطع يجعلنا نعيش في حالة "يقظة متوترة"، ننتظر الإثارة التالية، النكتة التالية، الغرابة التالية… فلا نعود نحتمل الهدوء، أو نثق بأننا نستحق السعادة دون تحفيزٍ خارجي…
أقول: إن خطر الريلز لا يكمن في محتواها وحده، بل في آلية عرضها، في البنية العصبية التي تُحرّكها، في ذلك "الجرس" الذي يُدمنه عقلنا… فهي لا تُخاطب فكرنا، بل تُداعب غرائزنا: الضحك، الفضول، الرغبة، الخوف…
وهنا، لا أنادي بالانغلاق، ولا بالاعتزال… بل أدعو إلى التدبّر. إلى وعيٍ بما يحصل داخلنا ونحن نُحدّق… أدعو إلى صيامٍ رقميٍّ متقطّع… إلى جعل الهاتف بلا إنترنت في بعض ساعات اليوم… إلى استبدال الريلز بقراءة، أو حتى بلقاء صامت مع النفس…
وسبب طرحي لهذا الموضوع هو ما لاحظتُهُ في نفسي، قبل غيري...
إنّ خلاصنا يبدأ من إعادة تعريف اللذّة…
التعليقات