عالم بريكينج باد، هو عالم ما بعد ضياع القضايا الكبرى، وفقدان الهوية الفردية، وغياب المعنى، عالم يلجأ فيه المراهقون إلى الميث، إنهم بحاجة للهرب حتى قبل أن تلقي الحياة في وجوههم بكل ما في جعبتها، فهم لم يروا الكثير بعد على كل حال، لكنهم يهربون ليس من ضغط الواقع، بل من فقدان الهوية والمعنى، يهربون بالتحليق في العدم واللامكان.
يبدو موقع الدين من أحداث مسلسل بريكينج باد ملفتًا للغاية، من خلال غيابه وحضوره على السواء، لدينا غياب واضح للدين كمقولات ومؤسسات ورمزية داخل أحداث المسلسل، مثلاً لم تذهب أيّ من الشخصيات العشر الرئيسية إلى كنيسة على مدار الخمس مواسم؛ يبدو غياب الدين عن أسرة عالم الكيمياء طبيعيًا ومبررًا نظرًا للطريقة التي قدمت بها شخصية والتر، لأن الذي يشكل مفهوم الدين بالنسبة لوالتر هو الكمياء، لذا فهو لا يؤمن سوى بالمادة والتغيير والمعادلات.
أيضًا يدور المسلسل في إطاره الأعم عن الجريمة والمخدرات، ولا نتوقع أن يكون لدى أفراد العصابات في عصر ما بعد الحداثة حسّ أخلاقي أو مرجع ديني بشكل بارز، لذا غياب الدين كان له معنى على الدوام، إنه غياب يؤسس لشخصيات المسلسل وعالمه، لكن ماذا عن حضوره؟
المرات القليلة التي تظهر فيها لمحات دينية تكون غالبًا في سياق استنكاري أو تهكمي؛ بعد حادث الطائرة، تنظم المدرسة التي يعمل فيها والتر، تأبينًا جماعيًّا للضحايا، لقاء مع الطلاب ليعبروا عن مشاعر الحزن والغضب، تسأل طالبة: “إن كان الله حقيقيًا، فلمَ يسمح بموت كل هؤلاء الأبرياء دون سبب وجيه؟”، السياق الذي يذكر فيه الإله هنا، هو سياق إدانة مغلفة بالشك، على يد مراهقة من نفس الجيل الذي يلجأ للميث أكثر من الكنيسة.
بعد تخلص جيسي ووالتر من آثار جريمتهما الأولى، -بإذابة الجثة في حمض قويّ-، يسيطر الخوف على جيسي، ويشعر على الدوام أنه مهدد من أتباع القتيل، يتبعه ذات مرة رجلان ضخمان من أفراد العصابات قادمين نحوه، يرى في ملامحهما الغضب والشراسة ويوقن أنه هالك لا محالة، لكننا نتبين في المشهد اللاحق أن خوف جيسي يتلاعب بعقله، الرجلان الضخمان لم يكونا سوى مراهقين تركا ورقة تبشيرية على باب منزله ورحلا؛ ظهر الدين هنا بشكل خاطف، باعتباره صورة مرعبة ومضخمة لأصل ضئيل.
أكثر الطرق خفة في تعبير صناع العمل عن موقفهم من الدين، جاء من خلال “غونزو” زوج أخت توكو، الذي يرتدي صليبًا كبيرًا هو الإشارة الدينية الأوضح منذ بداية العمل؛ بعد أن قتل توكو أحد مساعديه “نو دوز”، يطلب من غونزو التخلص من الجثة في مكبّ سيارات، يستنكر غونزو الأمر، “إنها طريقة غير لائقة ومخالفة للتعاليم المسيحية”، لكنّه ينصاع لتوكو خوفًا، ثمّ يعود وحيدًا في الليل لينفذ تعاليم المسيح، يحاول إخراج الجثة من تحت السيارات المتهالكة ليدفنها، فتسقط على ذراعه وينزف حتى الموت.
إنها ميتة عبثية وتافهة، لمجرم عتيد لم تقتله صراعات العصابات لكن أودى بحياته اعتقاده الدينيّ، في مشهد لاحق يسخر هانك من غونزو، “إنه المجرم الأكثر غباءًا في العالم”، وكأنها سخرية من التعاليم الدينية التي قادته إلى مصيره العبثيّ، اللحظة الدينية النادرة في المسلسل تقود صاحبها للهلاك بنفس الطريقة المخالفة للمسيحية التي كان يريد أن يمنعها، تتواصل سخرية هانك من غونزو ومصيره، يلتقط الصور التذكارية مع جثة غونزو مبتورة الذراع، والابتسامات تعلو وجهه، وكأنه يخلد اللحظة التي قادت مجرمًا إلى حتفه ليس لكونه شريرًا، بل بسبب لحظة نادرة في حياته قرر فيها أن يكون رجلًا صالحًا.
يظهر الدين مرة عابرة أخرى في صورة طقس غريب، حين يذهب الأخوان المكسيكيان زحفًا نحو قديسة الموت –إلهة محلية تنتشر عبادتها بكثرة في أمريكا اللاتنينة-، ليقطعا عهودًا بقتل هايزنبرج ويطلبا عونها، كان ينبغي أن تمنحهما مشقة الزحف مباركة أكيدة، لكنّ الإلهة تخذلهما، يفشل الأخوان في قتل هايزنبرج، يُقتل أحدهما، ويفقد الآخر ساقيه، هذه المرة أيضًا بخفة وذكاء يجعل أصحاب العمل الاعتقاد الدينيّ يرتدّ على أصحابه، بمشهد في المستشفى يحاول فيه الأخ مبتور الساقين الهجوم على هايزنبرج، لكنه يسقط ويزحف مرغمًا كرجل لم يعد بإمكانه الوقوف، الزحف هذه المرة نحو هايزنبرج بدلًا من آلهة الموت؛
العالم الحقيقي يختار آلهته لاعتبارات أخرى.
المصدر
التعليقات