إن قيمة الشيخ محمد بن مبارك الاقاوي السوسي بدت جلية منذ سنة 1509م.. وفي مضمون الأحداث.. أن وفدا يمثل قبائل سوس اتصل بالشيخ في زاويته بأقا.. ذلك أن هذا الشيخ الصوفي كان تقيا ورعا وفقيها… بل وتم وصفه بالأمير والسياسي.. كما عند الحسن الوزان (ليون الإفريقي) في كتابه وصف إفريقيا.. و محمد حجي في مؤلفه الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين…
ونفهم من خلال ما ورد في كتاب المغرب في عهد دولة السعديين للأستاذ عبد الكريم كريم.. أن الغاية من هذا الاتصال هي.. تقديم طلب من قبائل سوس للشيخ الأقاوي للقيام بأمرها و توحيد صفوفها.. كأول بوادر الدولة.. والمبادرة السياسية هاته لم تكن من طرف الأقاوي.. بينما ارتبطت بالقبائل السوسية على وجه التحديد وقياداتها.. ويعني ذلك أنه لم يكن إلى حدود ذلك التاريخ يحدوه أمل بتحقيق انجاز سياسي كبير.. و لم يكن يشتغل من أجل تحقيقه مشروع من هذا الطراز…
وبالنظر لطبيعة تلك المرحلة و الظرفية التي كان يعيشها المغرب المتسمة بضعف الحكم المركزي و عجز الوطاسيين عن فرض سلطتهم بسوس والجنوب.. وارتماء سلاطينهم بأدرع العثمانيين.. فإن الفرصة كانت متاحة للمصلحين الاجتماعيين و شيوخ التصوف للقيام بهذا الدور.. وفرض الاستقرار بمجال هم أدرى بخصائصه و طباع أهله… فقد كان ذلك كافيا ليحظى بن مبارك الأقاوي السوسي المتصوف بتقدير من طرف السوسيين الذين قصدوه.. كشخصية تمتاز بذكاء اجتماعي ووعي سياسي.. و قائد حكيم له القدرة على توحيد صفوف القبائل المتنازعة والمختلفة…
ويبدو كذلك ضروريا التساؤل لماذا قبائل سوس لوحدها هي من بادرت للقاء الشيخ الأقاوي دون غيرها من القبائل القريبة من أقا و الكثيرة أو حتى في درعة مثلا؟.. فالمؤرخ المغربي محمد حجي يروي أن شيخا آخر من المتصوفة الجزوليين يدعى بركة بن محمد التيدسي “نسبة إلى قرية تيدسي قرب تارودانت السوسية” كان يتزعم هذه القبائل و”يشرف على أعمال المجاهدين الذين يحاربون البرتغاليين ويراوحونهم بمنطقتي فونتي وماسة في مناوشات لم تستطع ردع المسيحيين”.. والمستفاد من هذا الخبر أن هذه القبائل لم تتوجه للاستعانة بالأقاوي إلا بأمر من بركة التيدسي لتطوير التنسيق بين فروع الزاوية الجزولية…
كانت مهمة الأقاوي هي التفكير في مشروع سياسي ضخم يتجاوز حدود سوس.. وفي عام 915 هجرية استدعى بن مبارك إلى زاويته في أقا أحد شيوخ زاوية تكمدارت بنواحي زاكورة.. و أطلعه خلال هذا اللقاء على آخر التطورات السياسية بسوس.. وبأن السوسيون عازمون على الإعانة لما فيه الصلاح والخير.. كما يستشف أن المرحلة كانت للتشاور و التعبئة ووضع الأسس الأولى لبناء مشروع سياسي وطني.. ففي السنة الموالية 916 هجرية.. ترأس الشيخ بن مبارك الاقاوي تجمعا جديدا بزاويته بأقا.. تم فيه التراضي بين قبائل سوس وشرفاء تكمدارت بدرعة…
نظم الاقاوي تجمعا آخر في نفس السنة وذلك بقرية تيدسي السوسية.. بويع فيه رسميا أبو عبد الله القائم بأمر الله السعدي أميرا للجهاد بعد تزكيته من طرف محمد بن مبارك الأقاوي لتسخر له قبائل سوس الرجال والعتاد والطاعة… وبذلك يكون دور هذا الأخير جليا في بداية الجهاد السعدي و تأسيس دولة السعديين.. ليس تنظيرا.. لكن اقناعا وتخطيطا.. كما أن فكرته بتوحيد مناطق الجنوب الرئيسية.. كان منطلقا لتحقيق وحدة البلاد ككل..والتكامل في أدوار الزوايا الثلاث كان حسب رؤية الأقاوي ضروريا ليتحقق مشروع تأسيس الدولة.. فإذا كانت تيدسي بتارودانت نموذجا للجهاد و الدور العسكري.. فإن أقا بطاطا كانت رمزا للسلطة الروحية و الصلح الاجتماعي.. في حين يمكن اعتبار تكمدارت بزاكورة علامة على الزعامة السياسية..
ومختصر الكلام.. أن الشيخ محمد بن مبارك الأقاوي بعد لجوء قبائل سوس إليه وإلحاحهم عليه.. كان يفكر بمنطق مصلحة البلاد.. واستطاع بحسه الوطني الوحدوي المساهمة في تأسيس دولة تحت الطلب والتأكيد.. ارتقت إلى مصاف الأمم العظمى في القرن 16م.. وساهم في استمرار الدولة المغربية الموحدة التي أنقدها من التمزق السياسي والتناحر القبلي.. والتي امتدت حدودها الامبراطورية من تيدسي بتارودانت الى كامل ربوع المغرب ومن ثم إلى بلاد السودان في عهد المنصور الذهبي…