عُلِّم طُلّاب الطب، ولعقود عديدة، أنَّ القرحات المعدية والمعوية يسبّبها القلق والتوتّر، وزيادة الضغوطات التي تبعث على زيادة الحامضية الموجودة في المعدة، فتفوق تلك المادة الأكّالة طاقة خلايا المعدة على تنظيم الحامضية، فتثقبها وتكوِّن فيها جروحًا تشبه القروح.
ولعقود عديدة، كان العلاج الذي يُعطى لمرضى قرحة المعدة هو دواء يخفِّض الحامضيةوالهستامين، وتُجرى أحيانًا عملية لقطع العصب التائه vagus nerve الذي عندما يزوِّد المعدة بتفرّعاته يزيد من قابليتها على انتاج هذا الحامض، في بعض الأحيان كانت تُجرى عمليات لأزالة أجزاء من المعدة فقط لأنّها تقرَّحت وبعض الأدوية ليست فعّالة في العلاج.
مقيم أسترالي في أحد المستشفيات، الطبيب باري جيمس مارشال، كان يفحص جزء من نسيج معدة مُستأصلة تحت المجهر، رأى أنَّ هذه القروح تستعمرها بكتريا الملوية البوابية (Helicobacter Pylori)، وتسائل عن علاقة تلك البكتريا بالقروح، وحين اقترح ذلك على الأطبّاء الآخرين، قالوا له: مستحيل! القُرحة تنتج من اضطرابات القلق والتوتّر، ما تراه هو التهاب ثانوي، واستطيان البكتريا إنّما تمّ لأنَّ النسيج قد فسد أصلًا بفعل القروح، أنت ترى نتيجة لا سببًا!
«كان الجميع يقفون ضدي، ولكني كنت أعرف أنني على صواب»
لحسن حظّ الطب أنّ مارشال لم يقتنع بما أخبره الأطبّاء، وحاول تحدِّي تلك النظرة السائدة عن قروح المعدة، في البداية حاول ايجاد علاقة بين القروح والبكتريا، وقد جمع كمًا من البيانات، لكنّ الأمر لم يُقنع زملاؤه أيضًا، وتمسّكوا بنفس سببهم القديم.
حاول مارشال أن يزرع هذه البكتريا في بعض الخنازير لاثبات هذه العلاقة، لكنّه لم ينجح، فشمَّر عن ساعديه وقام أحد أجرأ التجارب في الطبّ الحديث، لقد ابتلع مُستعمرة من بكتريا الملوية البوابية، ثمَّ أجرى على نفسه فحصًا بالمنظار بعد أسابيع، ليجد أنّ معدته قد مُلئَت بالقروح، وغزت نتائج هذه التجربة الأوراق البحثية الطبيّة.
أجرى مارشال بعد ذلك دراسة أخرى، وأثبت أنّ مرضى قرحة المعدة الذين عُولجوا بمضادات حيوية، كانوا أكثر استجابة للشفاء ممّن عولجوا بمضادات الحموضة فقط، وأصبح هذا العلاج هو السائد حتّى اليوم لمرضى القرحة.
باري مارشال حصل على جائزة نوبل بعد هذا الاكتشاف، وهو حيّ يُرزق ويغرِّد على تويتر، وله "بايو" أكثر تشوقيًا من البايو الذي على حسابي، ويضع صورة يشرب فيها عصيرًا مُنعشًا، وكأنّه يُريد أن ينقل شعور ابتلاع مستعمرة البكتريا لمن يبحثون عنه
هذا المقال يأتي ضمن سلسلة من المقالات التي تشدّد على أهميّة المُلاحظة، وتوصل فكرة أنّ الاكتشافات العظيمة لا تحتاج ضرورة إلى مُعدّات متطوّرة، إنما هو بعض الفضول!
اقرا أيضًا قصّة لغالليلو ولعالم الأحياء لويس أغاسيز
التعليقات