المحتوى الذي يختارك قبل أن تختاره،
في إحدى المرات، حملت تطبيق "تيك توك" بدافع الفضول، مجرد تجربة عابرة لا أكثر. لكنني ما إن فتحت التطبيق حتى انهمرت عليّ مقاطع لا ترضي ذوقًا ولا خلقًا، فحذفته في اللحظة نفسها.
كنا نعلم – أو نُخبر بذلك – أن المنصات تعرض في البداية المحتوى الرائج في منطقتك الجغرافية. وأثناء نقاش دار بيني وبين أحد أصدقائي عن هذه التجربة، قاطعنا أحد المراهقين قائلاً بثقة:
"الموقع يعرض ما تبحث عنه أنت."
نظرت إليه، وقّلت في نفسي أنه لا يفقه ما يقول. فربما يمتلك حسابًا في كل منصة معروفة على وجه الأرض، ومع ذلك يظن أن ما يظهر للناس هو انعكاس لنيّاتهم فقط. أكمل صديقي حديثه مازحا:
"ببساطة...إنه يقول، إنها ميولاتك!"
لكن هل هي فعلًا ميولاتنا؟ أم أن هناك من يصنع هذه "الميولات" ويغلفها في قوالب خوارزمية تخدم أهدافًا أعمق مما نتصور؟
قبل مدة ليست بالطويلة وقد كنت قليل الإطلاع على أنستغرام، حذفته بعدما بدأت تظهر لي. في آخر استخدام له مقاطع تشكك في الدين الإسلامي صراحة، قادمة من حسابات مشبوهة، إما حاقدة أو ممولة بدقة.
ثم جاء دور "يوتيوب".
في مرحلة ما، صار يعج بمحتوى مشبوه، خصوصًا ذاك الذي يُبثّ للأطفال. فيديوهات تدعم توجهات معينة ، تُقدَّم بسلاسة وخبث، (الألوان) ، ما يجعلها تنساب إلى وعي الطفل دون مقاومة. بدأت أبلغ عنها، وأصرّ على تطهير صفحتي منها، رغم أن معظم البلاغات كانت تُرفض بحجة أن المحتوى لا يخالف "سياسات المنصة". ومع ذلك، تحسن المحتوى لدي، وصار أكثر نقاءً، شكرا لخيار " المحتوى لا يهمني ".
أقللت كثيرًا من استخدامي لمواقع التواصل الاجتماعي. لا أقول إني انقطعت عنها، لكنها لم تعد تملك زمام وقتي، وهذا في حد ذاته شيء أعدّه إنجازًا.
أتذكر هنا قول الإمام الشافعي رحمه الله:
"أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يُستساغ، ثم يُؤلف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرامٍ آخر."
كلمات تختصر كل ما نحاول قوله عن "الاعتياد"، عن كيف يتحول القبح إلى أمر طبيعي إذا تكرر، وكيف يصبح الخطأ مألوفًا حين يُروّج له بما يكفي.
حين كنت طفلًا، لم أكن أفهم تمامًا الفارق بين الخير والشر، بين الحلال والحرام، كنت أتعامل مع العالم كما يُعرض لي. أتذكر كيف صُدمت عندما تحوّل فيجيتا من شرير إلى حليف لغوكو!
لم أفهم حينها لماذا يُعرض شيء إن كان خطأ؟ بل لماذا يوجد أصلًا؟
اليوم، ما زال السؤال نفسه يتردد داخلي، وإن كان بصيغة أنضج:
هل نملك حرية الاختيار فعلاً؟ أم أننا مجرد متلقين في بيئة يتحكم فيه من يملك خوارزميات النفوذ والتأثير؟
التعليقات