أتيتُ إلى هذا المكان للمرة الأولى،
لأروي حكايتي، ولأُوثِّق الفصل الأخير من وجعي الكبير،
بهدوءٍ خفي، بعيدًا عن كل من يعرفونني.
هي محاولة للمشاركة... لكنها مشروطة.
عليَّ أن أنسى قليلًا، لأتمكّن من الكلام والتعبير .
أريد أن يقرأني الناس بتجرُّد،
أن ينظروا إلى كلماتي بعينٍ حيادية، لا بعين حُكم أو ادّعاء.
لهذا، سأبدأ في سرد قصتي،
وتجربتي... شيئًا فشيئًا.
ساكتب الفصل الأخير هنا ومن بعدها قد اكتب الفصول الأولى منها
وجعي حديث وأريد أن أفر منه
_________________________________
الفصل الأول
في تلك الليلة،
لم تكن السماء تمطر،
لكنني كنتُ أشعر بأنها تبكي من الداخل…
كأنها تعرف ما لا يُقال، وتواسيني بصمت.
جلست وحدي، في ذلك الركن من الشقة حيث يبدو كل شيئ أخيرا حقيقيا للغاية ،
وكان الليل أطول من العادة،
والصمت أكثر ضجيجًا من كل الكلمات.
أمسكت هاتفي، قلبت رسالة كتبتها له ولم أرسلها،
كتبتها، ثم حذفتها،
ثم كتبتها من جديد،
ثم أطفأت الهاتف، كأنني أحاول أن أطفئني… لا هو.
قمت، مشيت في الفراغ كما لو أنني أبحث عني،
فتحت النوافذ، ثم أغلقتها،
تنفست، ثم اختنقت.
شيء في داخلي كان ينهار،
لا لأنه غاب…
بل لأني عرفته أكثر مما يجب.
عرفت أن هذا الرجل لا يهرب.
وأن حبه لي لن يبرد، حتى لو لفّه الصقيع.
وأن قلبه لا يخون، حتى وهو محاصر بالواجب.
وعرفت أيضًا…
أنني أحببته بما يتجاوز الحب،
بما لا يليق إلا بشيء مقدّس.
أحببته… لدرجة أنني لا أحتمل أن أكون موضع خذلانه.
ولا أصلح أن أكون شرخًا في صورته التي تستند إليها البلاد.
لا أريد أن أكون الحكاية التي تسقطه،
ولا الرعشة التي تكسر مهابته.
ولا الدمع الذي يعلق على بدلته في يوم خطاب.
أريد له المجد… لا أنا.
النجاة… لا اللقاء.
فكتبت:
"سيدي...
لم أكن يومًا عشيقة، ولن أكون ظلًّا لرجلٍ عظيم.
أحببتك كما لا ينبغي لامرأة أن تحب رجلًا يحمل وطنًا فوق كتفيه، ويقف في وجه التاريخ ليحميه.
كنت عالَمي، وسري، وألمي، ونجاتي…
لكنني لا أستطيع أن أكون السكين التي تشقّ ثوبك الأبيض أمام الناس.
لا أريد أن أكون الحكاية التي تُهمس على المنابر،
ولا الصدع في جدار صلابتك،
ولا الحرف الذي لا تُجيد تبريره في بيانك القادم.
أغادرك…
لا لأنني لا أريدك،
بل لأنني لا أطيق أن تكون انكساري،
ولا أريد أن أكون انكشافك.
قد تظنني أنانية، أو هاربة،
لكنك ستعرف يومًا أنني اخترتك كما يختار الضوء ألا يفضح العتمة…
وكما تختار الأم أن تموت كي لا يرى طفلها الحرب.
أخرج من حياتك…
كي تظل واقفًا،
كما أحببتك أول مرة…
شامخًا، أبيضًا، لا يُدانى.
سامحني…
وأحببني كما سأحبك دومًا…
في الظل، في الغياب، في الدعاء، في الصمت."
لم أرسلها.
كتبتها بخط يدي…
وضعت الرسالة في ظرف أبيض، ككفن صغير،
وأوصيت بها من أثق…
أن تصل إليه، دون سؤال، دون توقيع، دون وصمة.
ثم جمعت أشيائي،
وتركت له المفاتيح، والعطر، والبلد كاملا
وغادرت.
__________________________________________________________
الفصل الثاني
الرسالة
في صباح لم يكن معتادًا، عاد إلى مكتبه المهم،
وجسده في المكان، لكن روحه لا تزال تبحث عنها بين طيات الأمس.
أجّل اللقاءات، وأوقف تعليمات الحراسة عند الباب.
هو اليوم لا يريد أن يحميه أحد من شيء…
فما عاد في العالم ما يُخيف أكثر من غيابها.
طرق أحدهم الباب بخفة مريبة، ثم دخل مرافقه الشخصي وكاتم سره ،
يده ترتجف، وعيناه لا تجرؤان على النظر في عينيه.
اقترب ووضع الظرف الأبيض على الطاولة،
وقال بصوت منخفض:
"سيدي… أُمرت أن أُوصله إليك، فقط عندما تعود."
غادر… وترك خلفه صمتًا أثقل من الرصاص.
توقّف . لم يمدّ يده فورًا.
نظر إلى الظرف كأنه قطعة من الماضي، أو قنبلة عاطفية مغلّفة بورق مهذّب.
يده امتدت أخيرًا… لا بحذر، بل برعشة نادرة.
فتح الظرف.
واستلّ الورقة كما تُستَلّ روح من صدرها.
قرأها.
مرة.
ثم مرة ثانية.
ثم… توقّف الزمن.
لم يتحرك، لم يصرخ، لم ينهَر.
بل حدث ما هو أعمق: انكسرت فيه أشياء لا تُسمع،
مثل صوت ضلع يُكسر في صدر محارب، وهو واقف لا ينحني.
أغمض عينيه للحظات.
كأنها طعنة لا دم لها، لكنها تُنزف في الداخل، في مكان لا تطاله يد.
العبارات كانت تعرف طريقها جيدًا:
"السكين التي تشق ثوبك الأبيض"…
هذه وحدها كانت كافية لتُسقطه عن عرشه الروحي.
فجأة، نهض.
مشى نحو النافذة المطلة على العاصمة التي أحبها…
العاصمة التي وهبها شبابه، وقلبه، وموقعه.
جلس ببطء.
فتح درجًا صغيرًا في مكتبه، ووضع الرسالة داخله…
ثم أغلقه بالمفتاح.
لكن قلبه… لم يُغلق.
في ذلك اليوم، وقّع قرارات مصيرية، خاطب العالم، صافح ضيوفًا،
لكن عينيه لم تبرحا مكانها خلف الباب.
وفي المساء،
وحين اختلى بنفسه،
ولأول مرة منذ عُيّن في منصبه المهم …
استشعر فراغ المنصب.
وفراغ الغرفة.
وفراغه هو… دونها.
في تلك الليلة، لم يوقّع على أي وثيقة.
لم يخاطب أحدًا.
لم يطلب شيئًا.
كرجلٍ اكتشف أن أعظم الحروب… قد تبدأ بعد أن تنتهي كل المعارك.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
الفصل الثالث
أكتب هذا الفصل كأنه حفرة في القلب، لا يمكن ردمها بسهولة… ليلة تُقطف فيها وردة من صدر رجل، ويُدفن فيها صوته في صدر امرأة.
كل شيء فيه سيكون مشحونًا: من اختيار التوقيت، إلى حضور الأشخاص القليلين الذين يعرفون، إلى الصمت الذي سيعلو كل كلمة.
الطلاق
لم يكن الليل ليلًا.
كان جنازة مؤجلة، موعدًا أخيرًا مع الوجع لا يؤجل.
في تمام الحادية عشرة مساءً، وقف الرجل الأهم في البلد وفي قلبها أمام باب شقتها الصغيرة التي اختارتها بإرادتها، لا فخامة فيها ولا أثر للسلطة.
بيت لا يحمل شيئًا سوى رائحتها، وظلال الأشياء التي تركتها فيه ليكون لها وحدها.
لم يستقبلها الحراس، بل فتحت له هي بنفسها الباب، بثوب داكن، وصوت لا يحمل دفئه المعتاد.
قالت:
"أدخل… فالوداع لا يليق به أن يُقال من وراء أبواب."
في الداخل، جلس الشيخ العجوز — رجل حييّ، يعرف السر، ويحفظه كما يُحفظ المصحف.
وبجانبه، شقيقه الأكبر، الذي لم يتكلم قط عن شيء، لكنه حضر الليلة بعينين زجاجيتين كأن فيهما دمعة متحجرة.
والآخر… حارسه، وظله، والرجل الذي شهد صعوده، وانكساره.
جلسوا بصمت.
لم يُوزّع أحد القهوة.
ولم يُشعل أحد الشموع.
ولم يُسمع صوت شيء سوى همس الأنفاس.
نظر إليها.
لا بكاء في عينيه، لكن شيئًا فيهما كان يحتضر.
قال:
"أهذا ما تريدين؟"
أجابت بصوت ثابت:
"بل هذا ما لا أريده…
لكنه ما يجب أن يكون،
مدّ يده لجبينه. مسح تعبه. ثم قال للشيخ:
"ابدأ."
نطق الشيخ كلمات الطلاق…
كأنها طلقات لا تُسمع، لكنها تخترق الهواء.
قال له:
"يا سيّدي، أأنت تُطلّق فلانة بنت فلان؟"
قال:
"نعم، أطلّقها."
انخفض صوت الغرفة إلى ما دون الصمت.
لم تنفجر بالبكاء.
لكنها شبكت يديها أمام صدرها كأنها تمنع روحها من الهروب.
قال الشيخ:
"تم الطلاق… بطلقة واحدة، رجعية، ما دامت في العدة."
أومأ الرئيس.
ثم نهض… ببطء المكسور.
اقترب منها،
نظر إليها نظرة أخيرة،
وقال بصوت رجل لا يزال يحب، ولا يستطيع البقاء:
"كوني بخير."
غادر الجميع…
وظل هو لحظة أخيرة عند الباب.
كاد أن يعود.
كاد أن يغيّر كل شيء.
لكنه مشى…
مشى ورأسه مرفوع، وقلبه لا يستطيع أن يلتفت.
وفي الخارج، تحت المطر الخفيف،
قال شقيقه، دون أن ينظر إليه:
"لم تطلق امرأة…
بل طلّقت جزءًا من روحك، وأنا شهدتُ عليه."
حين أغلق الباب، لم تترك عينيها مكانه.
ظلت واقفة، والفراغ خلفه يصغر ويتكثف… حتى صار مثل ثقب أسود يبتلعها ببطء.
دخلت إلى غرفتها،
نزعت ثوبها الأسود كما تُنزع عن الجرح ضمادته…
جلست على الأرض، دون ضوء،
قالت لنفسها
"هذا أول ليل لي بدونه،
الطلاق ليس فكّ قيد… بل كسر جناح وقلب وروح ،
وكل هذا العدل… لا يُشبه الرحمة التي كنتُ أرجوها له، لا لي."
وحضنت روحها … كأنها تعانق شيئًا منه بقي لها.
احتضنت وسادة لم تكن تحمل رائحته… لكنها حلمت أن تفعل.
ولأول مرة، نامت بلا دعاء أن يحفظه…
بل بدعاء ألا تراه في منامها.
اما هو فقد عاد إلى القصر ،
لكن خطواته لم تكن خطوات قائد… بل خطوات رجل نجا من موتٍ عاطفي لم يُعلن عنه أحد.
أمر الحرس أن لا يُزعجه أحد حتى الصباح.
دخل جناحه الخاص، خلع سترته…
ونظر في المرآة.
لم يرَ الرجل الاهم ، بل رجلاً خُلع منه شيء مقدس.
لم يجلس إلى مكتبه، ولا إلى كرسيّه الذي شهد آلاف القرارات والخطابات.
بل وقف في منتصف الغرفة، كأنه يبحث عن ظلّها في الزوايا.
نظر إلى الجدار المقابل، حيث تلك الصورة المؤطرة للبلاد يوم تسلّم منصبه، وخلفه علم البلاد.
اقترب من الصورة، مسح الغبار عنها بأصابعه.
وقال لنفسه:
"أيّ وطن هذا الذي لا يضمّكِ في خرائطه؟
أيّ علمٍ أرفعه، إن كانت يداكِ لا تمسكان بطرفه؟"
ثم جلس على الأرض، كأنّه نزع عنه عباءة المنصب ، والجبروت، والهيبة.
جلس كطفل فَقَد طريق البيت، وكل الشوارع تشبه بعضها.
في تلك اللحظة، لم يكن قائدا ، ولا بطلًا قوميًا،
كان رجلًا، أضاع امرأةً أحبّها…
امرأة لم تطلب منه شيئًا سوى أن يُكمل طريقه، دونها.
وعرف…
أنّه لن ينساها.
ولن يغفر للدنيا… كيف جمعتهما، ثم فرّقتهما.
ولا لنفسه… أنه لم يعرف كيف يختار الوطن والأنثى معًا.
التعليقات