نُشِرَت هذه المقالة في الأصل على مدوّنتي، وقد نسختُ محتواها هنا تسهيلاً للقراءة. يمكنك تصفّحها -بتنسيق أفضل برأيي- على المدوّنة:

بدأتُ بتطبيق تجربة “الأهداف السنوية” قبل أربعة سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أوثّقها سنوياً بتدوينة في نهاية كل عام (كتبتُ تدويناتٍ مماثلة في 2018 و2017 و2016)، فقد وجدتُ أن هذا التوثيق مفيدٌ جداً لي لأرشفة تقدمي وتطوري الشخصي للمستقبل، كما أنَّ التفاعل الإيجابي معها -منذ بدأتُ بنشرها في مجتمع حسوب I/O- شجَّعني على في مدونتي ومشاركتها مع أصدقائي.

عن حياتي في سنة 2019

قد تكون هذه أكثر سنين حياتي (أو ما عشتهُ من حياتي) اكتظاظاً بالمستجدّات والأحداث، لدرجة أني أتفاجأ -مرة تلو مرة- عندما أدرك أن أشياءً أخالُها وقعت منذ سنتين أو ثلاثة كانت في بداية السنة. وهذا الأمر لهُ تفسير سهل: وهو أني تنقلتُ في هذا العام أكثر من أي عام سبقه، فقد سافرتُ إلى خمسة عشر بلداً ورأيتُ عشرات المدن وعشتُ في دولتين ودرستُ في جامعتين وعملتُ بأربع وظائف على الأقلّ، وفي هذا عددٌ من التغييرات والذكريات والمعلومات التي يصعبُ على عقلي أن يُلِمَّ ويحيطَ بها.

بدأتُ هذه السنة وأنا طالب جامعي في نهاية السنة الدراسية الثالثة، وكنتُ في الوقت ذاته أعملُ بدوام جزئي في تلخيص الكتب مع شركة كتاب صوتي وأدير نشاطات ويكيبيديا في بلاد الشام. وقد تغيّرت معظم هذه الأمور خلال السنة بطرقٍ متفاوتة.

لم أحقّق تقدماً جديراً بالذكر على صعيد دراستي الجامعية، فقد بدأتُ العام وأمامي ثلاثة فصول للتخرّج، والآن نقصت إلى اثنين، وقد لا ينقصُ هذا العدد مطلقاً في السنة القادمة. إلا أنَّ التغير الكبير هو حصولي على منحة دراسية في ألمانيا (Erasmus+)، وقد انتقلتُ بفضلها إلى مدينة كولونيا قبل أربعة شهور لمتابعة تخصّصي -في اللغة الإنكليزية- وتعلم اللغة الألمانية، وهو تحوّل غير حياتي اليومية تماماً وفتح أمامي فرصاً هائلةً للسفر في أرجاء أوروبا ولخوض غمار تجارب كثيرة جداً.

وأما عملي فقد كان أكثر ما تغيَّر خلال السنة، فقد دخلتُ وظائف متنوعة جداً خلال العام، ولا شكّ بأن أكبر نقلة وظيفية حققتُها (وأكبر تحوّل في حياتي في هذه السنة) هو حصولي على وظيفة بدوامٍ كاملٍ مع ويكيبيديا، وهو حلمٌ قديمٌ تحقّق بأبهى صوره. بدأتُ عملي هذا في النص الثاني من العام، في شهر يوليو، ممَّا جعل جمعها مع منحتي الدراسية شبه مستحيل، وقد ضحَّيتُ بالمعظم -لأسبابٍ كثيرة و”مدروسة”- بالدراسة على حساب العمل.

معظم النصف الثاني من العام (بعد أن بدأتُ العمل مع ويكيبيديا) كان كفاحاً مستمراً كي أقومَ بكلّ ما أريده في وقتي مع التنازل عن أقلّ عددٍ من الأشياء: فأنا أسافر وأعمل وأدرس وأتعلم لغة وأدير منظمة تطوعية، ولا أظنُّ أنَّ ممَّا يدعو للمفاجئة أني لم أنجح تماماً في كلّ هذه الأمور، ولكنها جميعها أو معظمها لا زالت -على ما أرجو- تحت السيطرة، وأما طموحاتي وأهدافي السنوية فقد اضطررتُ لتجميد معظمها بعد النصف الأول من السنة، وهو ما لا يبعثُ في نفسي قدراً لا يستهانُ به من الأسى.

أهدافي السنوية

1. القراءة

القراءة هي الهدف المملّ الذي أضعهُ على رأس قائمتي كلّ سنة، وأظنُّه عاد بفائدة أكثر وأجلى من أي هدفٍ سواه، فصحيحٌ أني أقرأ الكتب منذ طفولتي، لكني كنتُ -طوال حياتي- أعيشُ معاناةً ومماطلةً طويلةً لأنهي أيّ كتاب، بحيث أن إتمام أي شيء (عدا القصص والروايات) أصبح تحدياً متعباً ومستحيلاً أمضي فيه شهوراً وسنين، وقد مرت بي فترات طويلة وغير بعيدة كنتُ أجاهدُ فيها لأقرأ كتاباً بالسنة أو أقلّ.

وقد أنسبُ الفضلَ الأكبر في تغيّر سرعتي بالقراءة لدراستي الجامعية، فهي تجبرني على قراءة آلاف الصفحات في كلّ فصلٍ دراسي، وبسببها لا أكاد أستطيع تخيّل كسل القراءة الآن: فالقراءة هي جزءٌ طبيعيٌّ من حياتي اليومية، والكتاب -مهما كان كبيراً أو مخيفاً- لا يجبُ أن يأخذ أكثر من شهرٍ لإكماله، وأما أبناء هذا الجيل الكسالى ممَّن يجعلون قراءة الكتاب الواحد إنجازاً عظيماً فهُم يثيرون الحزن والأسى، فعلى وتيرتهم قد يستغرقهم الأمر عقداً لمجاراة ما يقرأه فتى أوروبي في المرحلة الابتدائية.

كنتُ دائماً أتجاوزُ هدفي القراءة، فضاعفتهُ هذا العام وقرَّرتُ أن أقرأ 25 كتاباً خلال السنة، أي كتاباً كلّ أسبوعين، وفشلتُ في ذلك بالطبع. بحسب إحصائية Goodreads قرأتُ 21 كتاباً هذا العام مجموع ما فيها 4,885 صفحة، لكن من ضمنها كتاباً مكرراً ومقالةً من اثني عشر صفحة (سجلتُها لأنّ كل صفحة منها كانت بمثابة عشر صفحات من أيّ كتاب طبيعي أعرفُه). أكثر كتاب أرهقني منها هو “الأوديسة”، وأكثر ما استمتعتُ به هو “غاتسبي العظيم” و”كبرياء وهوى”.

من المحزن قليلاً أنّي قرأتُ 15 كتاباً من هذه قبل منتصف العام، وقرأتُ أقلّ من خمسة كتبٍ في الباقي، وليس ذلك باللغز المحيّر: فقد بدأتُ، في منتصف السنة تقريباً، أول وظيفةٍ بدوامٍ كاملٍ في حياتي، ويبدو أنها ستفرضُ عليَّ العودة إلى أهدافي المتواضعة في القراءة من الآن فصاعداً.

2. الكتابة

عليَّ الاعتراف بأنَّ هذا هو الهدف الذي أضعهُ لنفسي في كلّ عام دون نتيجة عدا الفشل الذريع. الكتابة هي من أصعب الأشياء التي جرَّبتُها في حياتي، وكتابة الأدب (الروايات مثلاً) أصعبُ بمرَّات من كتابة أي مقال أو موضوع علميّ، فهي تستنزفُ الخيال والتفكير والإبداع ومَلَكة اللغة، وفيها كفاحٌ دائمٌ للمثالية والتميّز وتجنب الجمل المملة والأوصاف المستهلكة الرخيصة. كان هدفي لهذا العام أن أنتهي من روايةٍ بدأتُها قبل سنة وكتبتُ منها نحو 25 ألف كلمة، وقد زدتُ عليها طوال العام المنصرم ما لا يتعدّى 10% على طولها السابق، وما كتبتهُ يُغطّي ربع أحداث القصة على الأكثر.

وأما هدفي الآخر في الكتابة (الذي لم أضعهُ ضمن أهدافي السنوية) فهو إنهاء كتابةٍ في الترجمة بدأتهُ -كذلك- منذ سنوات، ولم أضمّه إلى القائمة لأني ظننتُ أني “شارفتُ على إنهائه” في بداية العام، وكنتُ مخطئاً بالتأكيد. على أنَّ هذا الكتاب، بعكس روايتي الفاشلة، قد يرى النور فعلاً، فقد زدتُ حجمه إلى الضعف تقريباً على مدار العام وصار طول مسودّته 35,000 كلمة، ولكن الطريق لا يزالُ طويلاً لأني بحاجة لقراءة عدة مراجع أكاديمية وإضافة الكثير من المصادر إليه حتى يكون جاهزاً للنشر. أعملُ جاهداً لإنهاء هذا الكتاب الآن وأقتنصُ أي إجازة أو فسحة من العمل للتقدّم فيه، فقد يكون -على ما آمل- أول عملٍ أنشرهُ أفخرُ فيه حقاً، وقد أبيعهُ بالمال أو أحاول نشره.

3. قيادة فريق

عرضت عليَّ الجمعية الأردنية للمصدر المفتوح أن أقود -تطوعاً- واحداً من فرقها في بداية هذا العام، وقد قررتُ أن أضعَ هذا المنصب ضمن أهدافي للعام الجديد لأجبرَ نفسي على قبول العرض، لأني كنتُ مقتنعاً بأنه فرصة مميّزة لتطوير نفسي وبناء خبرتي. كنتُ قائداً لفريق اسمهُ Open Jordan يتخصَّصُ بالمشاريع التي تعتمدُ على المحتوى مفتوح المصدر، مثل ويكيبيديا وأوبن ستريت ماب وموزيلا وغيرها.

كان الجانب الأصعبُ من التجربة هو في استقطاب أعضاء للفريق وإقناعهم بالعمل معاً وإيجاد طريقة لإدارتهم، وهذا النوع من المهارات الاجتماعية المستحيلة ليس من ألمع نقاط قوتي، وأما الجانب الثري والممتع لي فقد كان في التخطيط الاحترافي للنشاطات وتطبيقها ضمن جمعية متطورة مؤسساتياً (رغم أنها غير ربحية).

للأسف، لم أستفد من التجربة تماماً لأني استقلتُ بعد خمسة شهور لظروفٍ سآتي على ذكرها لاحقاً في هذه التدوينة، وقد قاطعَ مسيرتي في هذه الشهور شهر رمضان واحتفالات العيد وفترة الامتحانات الجامعية، وبالتالي لم أستطع الالتزام جيداً ولم أكتسب ما يكفي من الخبرة.

4. دورة الترجمة

كان هدفي الأصلي من البدء بتأليف كتابي في الترجمة، الذي جئتُ على ذكره أعلاه، هو أن أُقدّمه مثل دورة إلكترونية في دراسات الترجمة مع اختبار في اللغة وبمقابلٍ ماديّ، وقد تخلَّيتُ عن هذه الفكرة بالتدريج لأن محتوى الكتاب صار أكاديمياً ومتوسعاً وكبيراً جداً، لكن -وبصدفة لا علاقة لها بهذا المشروع الشخصي- اتصل بي صديقٌ في السنة السابقة افتتح مركزاً للغات بعد تخرجه من الجامعة، وعرضَ عليَّ فرصة لتقديم دورة في الترجمة بالتعاون مع خريجة من الجامعة متخصًّصة باللغة العربية. وقد أملتُ أن أجبرَ نفسي على قبول العرض إذا وضعتهُ ضمن أهدافي للعام الجديد، فهو من فئة التجارب الاجتماعية المفزعة التي تخبرني غرائزي بأن أطلق ساقيَّ للريح هرباً منها.

وقد قبلتُ العرض فعلاً، وحضرتُ عدة اجتماعات “تحضيرية” لإطلاق الدورة، ولكن العراقيل وقفت بطريقنا مرة تلو الأخرى: في الاتفاق مع أساتذة الجامعة، وبسبب فترات المشاريع والامتحانات، وشهر رمضان، وأمورٍ أخرى. وقد جاءت الفرصة لتقديم الدورة أخيراً (أو نسخة مصغّرة منها) في شهر أغسطس المنصرم، ولكني لم أستطع أن أقبلَ العرض، فقد كنتُ في البلد حينذاك لأيامٍ معدودة ولفترة راحة قصيرة بين رحلتين طويلتين، وكان لديَّ عملٌ بنصف دوام ومسؤوليات كثيرة. فكرتُ ملياً في الأمر، لأني ربّما كنتُ أستطيع الإثقال على نفسي وتفريغ وقتٍ للدورة في ذلك الأسبوع الأخير، لكنَّ العبء كان كبيراً ولم أشعُر بأنه يستحقّ عناءه. لعلَّها كانت غلطة كبيرة، وربّما لم تكُن أمراً ذا شأن. لن نعرف أبداً!

5. ترجمة ونشر

بدأتُ منذ عامين بترجمة قصص أدبية قصيرة، على سبيل الهواية، ورغبتُ بأن أعود إلى هذا الأمر خلال هذا العام. فشلتُ في ترجمة أي قصص جديدة فعلياً، لأن هذه مهمة تحتاجُ لدأب وعناية لا تقارنُ بترجمة مقال بسيط، ولكني أخصّ نفسي بشيءٍ من النجاح لأني نشرتُ في هذه السنة ترجماتي الأدبية السابقة ولأول مرة، ولها الآن صفحة أنيقة في مدونتي حيث يمكنني أن أنشر (في ما آمل) ترجماتي القادمة. أرجو من قرَّائي الكثيرين أن يترقّبوا أعمالي القادمة بشوق هناك.

6. مدونتي

وأما هدفي الأخير لهذا العام فكان أن أهتمَّ بمدونتي وأعني بمحتواها (وأنا أنشرُ عليها الآن بضع مرات في العام)، وقرَّرتُ أن يكون مقياسي لهذا الهدف هو في عدد المتابعين، وذلك بأن أرفع عدد المتابعين فوق المائة. وقد كان فشلي ذريعاً على هذا الصعيد، إذا زاد عدد المتابعين منذ بداية العام عشرة أو أكثر بقليل، إلا أني نجحتُ في تحسين المدونة: فقد تعاقدتُ مع صديقٍ لإعادة تصميم المدونة بالكامل وإطلاقها على هيئة موقع جديد وأنيق المظهر. وقد يبدو هذا الإنجاز غير جديرٍ بالذكر لأنه جاء بالمال، لكن حتى بعد دفع المال للمبرمج فإنَّ الأمر لم يكُن سهلاً أبداً لي، بل احتاج للكثير من المتابعة والنقاش والاستفسار واضطررتُ لتجهيز الكثير من الصفحات الجديدة لتخصيص مساحة لترجماتي وكتاباتي في الموقع الجديد، ويسعدني جداً أن أنشرَ هذه التدوينة عليه الآن!

أمور أخرى

سفر وترحال

لدى بعض الأشخاص انطباعٌ غير مبرّر عني بأني أسافرُ كثيراً، لكني لم أسافر قطّ بقدر ما سافرتُ هذا العام: فالبلدان التي زرتُها في الشهور الاثني عشر الماضية أكثرُ من البلاد التي زرتها سابقاً طوال حياتي. السبب الرئيسي في هذه النقلة هو أني حصلتُ على منحة تبادل طلابي من إيراسموس لفصل دراسي واحد، وأعيشُ بفضلها في ألمانيا منذ أربعة شهور، كما أنني سافرتُ إلى عدّة مؤتمرات في ألمانيا نفسها وفي السويد وتونس.

كنتُ قد سافرتُ في نهاية سنة 2018 إلى 12 دولة في العالم فقط، وأما الآن فقد ارتفعَ هذا العدد إلى 26، وكانت الزيادة كلّها -عدا تونس- من دول أوروبية، على أنَّ بعضها صغيرة جداً وفيها شيء من الغشّ (فمن ضمنها الفاتيكان وليختنشتاين).

لم يكُن هذا السفر محضَ عدد من البلدان، بل هو يختزل عدداً هائلاً من الأماكن التي زرتُها والأشخاص الذين التقيتهم والأطعمة التي تذوقتُها و”المغامرات” التي عشتُها خلال هذا العام، فقد تجولتُ في مدنٍ وجبالٍ وغاباتٍ وكهوفٍ وجزر، وكدتُ أضيع وأموت في الغابات، أو أنهارُ تحت وطئة البلل والبرد (كما أحكي بتفصيل أكثر في بعض تدويناتي)، ولكن ذلك كلّه ثمن لكم هائل من التجارب الحياتية والمعرفية والاستكشافية!

اللغة الألمانية

انتقلتُ للسكن مؤقتاً في ألمانيا كما ذكرتُ أعلاه، ولم أنتفع من هذه النقلة في السفر فقط، بل كذلك في مشوار تعلّم اللغة الألمانية الذي بدأتُهُ قبل أربع سنوات. سجلتُ عند وصولي بدورة مكثّفة في اللغة الألمانية لمدّة شهر، وقد وضعوني (بناءً على امتحان قصير) في دورة لمستوى B1، وهو المستوى الذي يستطيع المُتحدّث به أن يستعين باللغة بسهولة في حياته اليومية، وهذه هي أول دروس منتظمة للغة أخذتُها قطّ.

والحقيقة أن الدورة كانت صعبة جداً، فقد كنتُ أحضرُ درساً واحداً في اليوم مدّته ثلاث ساعات فقط، ولكني كنتُ أخرج منه وأنا أشعرُ بأن حرارة دماغي قد ارتفعت للحدّ الأقصى وبأن خلاياي الرمادية على وشك الانصهار من محاولة مجاراة الدرس وفهم كلام الأستاذ واستعمال اللغة كتابةً ونطقاً لأول مرة.

وما زاد الأمور سوءاً هو أني كنتُ أعمل بوظيفة بنصف دوام، ولذا استطعتُ بصعوبة أن ألتزم بالواجبات والفروض المنزلية بعد الدروس، ولم أدرس شيئاً بنفسي (على عكس ما يفترضهُ المدرسون)، وقد سافرتُ إلى تونس لمدّة أسبوع للعمل في منتصف الدورة، وهو أمرٌ لم يساعدني بتاتاً. على أني ورغم هذه الصعاب الطويلة، ونجحتُ بطريقة ما في الدورة بعلامة واحدةً فوق علامة الرسوب، وهي علامةٌ نلتُها -حسب صديقي الإيطالي- “because the teacher thought he’s cute”.

ويبقى الجانب العمليّ، وهو تطبيقُ ما تعلمتهُ في هذه الدورة في كلّ الشهور اللاحقة من حياتي في ألمانيا. والمشكلة هنا هي أنني أمضيتُ معظم وقتي في السفر بأوروبا، ممَّا يعني أني ضيعتُ فرصاً كثيرة للحديث بالألمانية، ولكني مررتُ بعدَّة مواقف اختبرتُ فيها قدرتي على الصّمود مع اللغة بحقّ (وهذا أمرٌ لا يكتشفه المرء إلا في لحظات الشدّة)، ومنها مثلاً أني فقدتُ حقيبتي أثناء السفر بحافلة في ألمانيا، واضطررتُ للاتصال بخدمة العملاء (وهم لا يتحدثون سوى الألمانية) وتفسير المشكلة كاملةً وإعطاءهم رقماً مطولاً وأخذ ردّ منهم.

ما وصلتُ إليه الآن هو أني عندما أدخلُ لأي مطعم أو متجر الآن فإني أطلبُ منهم ما أريد باللغة الألمانية، وهو ليس بالأمر الصعب، وأما المشكلة فهي عندما يردّ علي صاحب المتجر عليَّ بأي جملة غير متوقعة (عدا عن “شكراً” أو “نعم” و”لا” وما شابهها)، فعادةً ما تنهار قدراتي اللغوية حينها وأنتقل للحديث بالإنكليزية. وهذه من أكبر مصاعب تعلّم اللغة هنا، فالجميع يتحدثون الإنكليزية جيداً!

تجارب مهنية

أرجو أني أقول الصدق عندما أدعي أن الإنجازات المهنية هي من أقلّ ما أكترثُ بتخصيص مكانٍ له في قائمة أهدافي السنوية، فهي مملّة ورتيبة وتعتمدُ في معظمها على صدفٍ وفرصٍ عشوائية يصعبُ الاستعداد لها. ولكن التقدم المهني كان دون شكّ من أكثر وأفضل ما حققتهُ هذا العام إن لم يكُن أكثره، ولا أدري إن كنتُ جاحداً عندما أتردّد فيما إذا كنتُ سعيداً بما حققتهُ على هذا الصعيد أم محبطاً لأني فشلتُ في أهدافي الأدبية والكتابية.

إم آي تي تكنولوجي ريفيو

كان طرف الخيط لهذه الفرصة هو أني كتبتُ مقالاً عن تاريخ العلم الفلك لمجلة “العِلْم للعموم” في نهاية العام الماضي، وهي مجلة تترجمها شركة هيكل ميديا في الإمارات، والشركة ذاتُها تترجم عدداً من المجلات الأجنبية العملاقة، ومن ضمنها MIT Technology Review العريقة التي تصدرُ منذ أكثر من مائة عام.

عملتُ بدوام جزئي مع المجلّة لشهور بوظيفة شبه صحفية، إذ كنتُ أجري مقابلات مع شركات عربية ناشئة في مجال التقنية وأكتبُ عنها مقالات قصصية تنشر على موقع المجلّة. أظنّ أن هذه الوظيفة هي أفضلُ عمل حصلتُ عليه سوق المحتوى العربي حتى الآن، بل وأظنّها من أفضل الفرص الموجودة فيه، فقد كان العمل احترافياً والوظيفة مريحة جداً، وهو ما وضعني في موقف صعبٍ فيما بعد.

إدراك

رأيتُ إعلاناً متواضعاً في مجموعة طلابية لفرصة تدريب صيفي في إدراك، وهي منصة أردنية تنتجُ دورات إلكترونية مجانية (MOOCs)، وواحدةٌ من منصتين عربيتين كبيرتين تتخصّصان بهذا المحتوى. قدمتُ للفرصة على عجل، ليس لأني كنتُ في فسحةٍ من وقت الفراغ، وإنَّما بسبب مبدئي الشخصي في الحياة (وكلّ منا له مبادئ وفلسفة يسيرُ في حياته وفقاً لها): وهو أن لا أضيّع أي فرصة سائغة لي. ولم تكُن هذه فرصة كبيرة من ناحية الخبرة أو التدرج المهني، ولكنها كانت فرصة لي لأدخل جانباً محبباً لي من عالم المحتوى العربي، ولم أرغب بأن أتركها تضيع.

وصلني القبول خلال أسبوع، وبدأ تدريبي بعد أسبوعين، وكانت هذه أول مرة أعملُ فيها من مكتب، وأول تجربة عمل حقيقية لي (إذ لم أعمل سابقاً إلا بدوامٍ حرّ وليس كموظّف). كانت مدة التدريب أربعة أسابيع فقط، تعلّمتُ فيها أموراً كثيرةً عن العمل في الشركات والبروتكولات الوظيفية والبحث التسويقي وإدارة المحتوى الرقمي والمنصات الكبيرة، وأظنّ أن هذه الخبرات تتصل جيداً بما اكتسبتهُ من عملي في ويكيبيديا وفي المحتوى العربي بالعموم.

تدربتُ لأربع أسابيع في إدراك، بواقع ثلاثين ساعةً أسبوعياً، بالتوازي مع عملي بدوام جزئي مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو ومع كتاب صوتي للكتب المسموعة. ولم تكُن هذه كلّ الوظائف التي عملتُ فيها هذه السنة.

ويكيبيديا

عندما يُعرّفني أحد أصدقائي إلى شخص جديد، فمن المحتوم أن يضيف كلمة “ويكيبيديا” (أو أحد اشتقاقاتها) إلى هذا التعريف، فهذه الموسوعة لها وجود محوريّ في حياتي منذ أكثر من عشر سنين. بدأتُ بكتابة المقالات على ويكيبيديا تطوعاً -وأملاً بإثراء المحتوى العربي- وأنا في المدرسة الابتدائية، وتطورت هذه التجربة التطوعية قليلاً بمرور الوقت إلى إدارة وتنظيم وسفر وأمور أخرى.

وقد نمى في نفسي حلمٌ خلال هذه الفترة الطويلة بأن أعمل مع مؤسسة ويكيميديا، وهي المؤسسة غير الربحية التي تديرُ موسوعة ويكيبيديا، ولعلَّ من الغريب أن يعمل المرء لقاء المال لهدف غير ربحي، ولكن أن يتحوَّل شغف المرء لمهنة هو نعمة لا مثيلَ لها. وقد تعبتُ على مر سنين وأنا أُمشّط الإعلانات الوظيفية للمؤسسة، ولكنها كانت كلّها في وظائف تقنية وبرمجية معقدة، فالمؤسسة ليس لها إلا 300 موظف يعملُ جلّهم بأكثر المهن مللاً في العالم.

ومثلما كتبتُ في تدوينة مماثلة عن “أهدافي السنوية” قبل عامين، فقد تحقّق هذا “الحلم” بأني حصلتُ على وظيفة بدوام جزئي لأكون منسقاً للغة العربية مع ويكيبيديا، إلا أنَّها لم تكُن مطابقة تماماً لما حلمتُ به: فقد كانت وظيفة رتيبة جلّها هو ترجمة لتقارير مطوّلة لا أكادُ أكترث بما فيها.

قبل ستة شهور، وصلتني رسالة من قائدة فريق التخطيط الاستراتيجي في المؤسسة تعرضُ عليَّ وظيفة بدوام كامل، ولعلّي أستطيعُ القول الآن أن حلمي قد تحقّق أخيراً، فقد صرتُ جزءاً من فريق حقيقي ولي دورٌ جوهري في عمله وفي نقاشاته وقراراته التي لها أهمية قصوى لآلاف الويكيبيديين. وأخشى أني سأضاعفُ طول هذه المقالة إن تحدثتُ هنا عن تجربتي الوظيفي هذه، لكنها -بدون أدنى شكّ- أفضلُ ما حصل في حياتي خلال هذا العام كُلّه، ومن أكبر النقلات التي وقعت لي قطّ.

تطوع ومحتوى عربي

تطوير ويكيميديا الشام

ويكيميديا بلاد الشام هي منظمة غير ربحية مسؤولة -نوعاً ما- عن تمثيل موسوعة ويكيبيديا في منطقة بلاد الشام، وقد كنتُ أحد مؤسّسيها في سنة 2015، وانتخبتُ رئيساً لها منذ سنتين وتجدَّد منصبي لسنة ثالثة مؤخراً، ولذا فإن تطوير هذه المنظمة (على قلَّة خبرتي ونعومة أظافري في مجال الإدارة) كان أولوية كبيرةً لي خلال هذه السنة، وحققتُ فيه إنجازات مقبولة.

أثبت تطوّعي مع جوسا (جمعية المصدر المفتوح) فائدتهُ هنا، فقد أدركتُ أن هيكلية ويكيميديا الشام الإدارية غير كفؤة لأنها لا تساعد الأعضاء على العمل معاً: فقد كُنّا مسومين إلى أربع مجموعات للمتطوعين في كل بلد من بلاد الشام، وهو نظامٌ نعملُ به منذ سنتين ولم يأتِ بأي نتيجة تذكر، وذلك لأن عدد الأعضاء ونشاطهم في هذه البلدان -لأسبابٍ واضحة- ليس متماثلاً أبداً.

وأدركتُ أن من الأجدى أن نعيد توزيع الأعضاء في فرقٍ بناءً على مجال اهتمامهم ونشاطهم وليس على مكانهم الجغرافي، وهي خطوةٌ احتاجت لقدر لا يستهانُ به من التحضير والتخطيط. أعدنا هيكلة المجموعة بالكامل بحيث تنقسمُ إلى أربع فرق (فريق التحرير في ويكيبيديا، وفريق تنظيم الفعاليات، وفريق العمل مع الجامعات، وفريق الإعلام والشبكات الاجتماعية). لا زلنا في مرحلة التجريب، ولكن النظام الجديد أدَّى إلى فعالية أكبر، ولدينا الآن 55 عضواً نشطاً في الدول الشامية.

وأما النقلة المؤسساتية الأكبر التي حقّقناها هذا العام فهي في الانتقال إلى نظام تمويلٍ سنوي من مؤسسة ويكيميديا، إذ ستكونُ لنا من الآن ميزانية نستلُمها في بداية كل عام (بدءاً من السنة القادمة) ويمكننا أن نُنموّل بها كافة نشاطاتنا وعملنا، وهذه النقلة الأولى من نوعها لمنظمة ويكيبديية في العالم العربي.

اتحاد الويكيبيديّين العرب

وأما نشاطي الويكيبيديّ الآخر ومن أكثر ما أفخرُ به في هذه السنة فهو العملُ على تأسيس منظمة موحّدة للويكيبيديين في العالم العربي، وهو مشروعٌ كنتُ -مثل الكثير من زملائي- أحلمُ به منذ بدايتي مع الموسوعة.

سمعتُ بفكرة هذه المنظمة لأول مرة قبل ست سنوات في مؤتمر الموسوعة السنوي (وكان آنذاك في هونغ كونغ)، ورأيتها طُرِحَت مراراً في مجتمع ويكيبيديا العربي دون جدوى، غالباً بسبب نقص خبرتنا التنظيمية في ذلك الحين. وبمرور الوقت، بدأت كل دولة عربية بتأسيس منظمة خاصّة بها، فظهرت مجموعات ويكيبيدية في تسع دول عربية، وظلّت كل منها تعملُ وحدها تماماً، ممَّا جعل طرح هذا المشروع أصعب بكثير.

في بداية هذا العام كنتُ في مؤتمر لويكيبيديا في برلين، وهو حدثٌ يتواجد فيه ممثلون عن جميع دول العالم التي لها مجموعات ويكيبيدية، وكان لنا اجتماعٌ للمشاركين العرب (حوالي عشرين شخصاً) فأخذتُ الفرصة لأطرح هذه الفكرة من جديد، وقد كان التفاعل رائعاً بحيثُ شكلنا مباشرةً لجنةً للتخطيط لصيغة هذه المنظمة وكيفية عملها.

ظننتُ أننا سننتهي من المسألة خلال شهر أو اثنين، ولكنَّ عملنا استمرَّ لثمانية شهور بسبب انشغالات الحياة وصعوبة ترتيب الاجتماعات، إلا أنَّنا نجحنا في الهدف: فقد وضعنا خطة استراتيجية وآلية عمل واضحةٍ لـ”مجلس الويكي العربي”، وحصلنا على موافقة من جميع العرب عليه، وسنعلنُ رسمياً عن انطلاق المنظمة الجديدة في اليوم الأول من العام الجديد.