لمن لا يعرف معنى كلمة نوستاليجا فهي تعني الحنين إلى الماضي. وهي حالة نفسية خاصة تم تشخيصها لاحقًا على أنها إحدى الحالات المرضية، وأحد المقدمات الأساسية لمرض الاكتئاب.

تُراني أدخل على حالة اكتئاب؟! حقيقة لا أدري....!

أنا مصري، من مواليد جيل الثمانينات. في المجتمع المصري يسمون هذا الجيل بالجيل الذهبي، لأنه عاصر مراحل انتقالية شتى، وشهد تحولات جذرية في جوانب كثيرة في الحياة، وخاصة التكنولوجيا. لمن له علم بالشعر الجاهلي قبيل الإسلام، ظهر مصطلح (شاعر مخضرم) للدلالة على شاعر عاصر الجيلين: الشعر قبل الإسلام والشعر في صدر الإسلام ... تستطيع أن تقول عنا أننا: جيل مخضرم

حتى علماء العصر الحديث – في أواخر القرن العشرين – كانوا يتحدثون عن التقدم الذي شهدته البشرية، فيقولون: "إن التقدم الذي شهده العقد الأخير في القرن العشرين، يساوي التقدم الذي شهدته البشرية منذ بدء الخليقة حتى عام 1990"

القصد أن هذا الجيل – جيل الثمانينات – عاصر لحظات التقدم هذه، وعاشها بكل التفاصيل المرتبطة بها، وخاصة فيما يرتبط بها من عواطف وأحاسيس.

فنحن الجيل الذي نشأ على القراءة، وهو أول من شهد ميلاد الكمبيوتر الشخصي، وبدء ظهوره في المنازل كجهاز أساسي لا غنى عنه لدى الناس.

ونحن الذين كنا نتواصل من خلال التليفون المنزلي (الأرضي) وشهد ظهور الهاتف المحمول (الجوال) وشهرته وانتشاره، حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن.

من الطرائف المضحكة في مسألة الهاتف الأرضي، أن ابنتي ذات مرة كانت تتحدث عن الهاتف الأرضي فتقول لي: بابا .. الموبايل الأرضي مش شغَّال! ومرة أخرى كانت تجري مكالمة باستخدام التليفون الأرضي، فسمعتها تنادي أمها في حيرة وتقول: ماما .. أدوس على أنهي زرار بعد ما أطلب الرقم؟ أنا مش عارفة زرار الاتصال الأخضر فين!" أما بشأن التلفاز ذي الريموت، فعندما كنت أخبرها أنني إذا أردت تغيير القناة، ينبغي أن أنهض وأقف بجانب التلفاز لأغير القناة، وأبحث عما يروق لي، كانت تفغر فاهًا مذهولة بمثل هذا الجهاز العجيب (العقيم من وجهة نظرها)!

ونحن الجيل الذي كنا نستخدم شرائط الكاسيت والفيديو، قبل أن نستبدلها بالكمبيوتر وأقراص السي دي CD والدي في دي DVD

ونحن الذين كنا نقوم بعمل الأبحاث المدرسية والجامعية بالاعتماد على مكتبة المدرسة/الجامعة، وليس جوجل ومواقع الإنترنت. وكنا نكتب الأبحاث بخط اليد، وليس ميكروسوفت ورد على الكمبيوتر.

نحن الذين كنا ننتظر برامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود كل أسبوع، ونرى أنها غاية العلم والتقدم، وكنا نقرأ مجلة العلوم المترجمة لأحدث ما وصل إليه العلم، وكنا نشاهد برنامج جولة الكاميرا كأكثر البرامج طرافة ومتعة في تاريخ التليفزيون المصري، ونحن الذين كنا نشاهد البرامج التعليمية عبر التليفزيون مع أبناء الجيران لأنه ليس لديهم تليفزيون أو لأن (إيريال التليفزيون بايظ).

ونحن الذين عرفنا ألعاب الأتاري وسوبر ماريو قبل أن يظهر البلاي ستيشن والويي والإكس بوكس.

ونحن الذين شهدنا احتضار العصر الورقي، وميلاد العصر الرقمي ونشأة الشبكات الاجتماعية. نحن الذين استخدمنا الآي سيك يو ICQ حينما لم يكن هناك برنامج غيره للمحادثة الفردية Chatting، والياهو ماسنجر Yahoo Messenger والإم إس إن ماسنجر MSN Messenger، وكنا ندخل إلى غرف الدردشة ونشعر بالانبهار أن هناك شخص ما جالس في مكان ما في العالم الآن يحدثنا محادثات فورية ويرد علينا ونرد عليه .. كل هذا قبل ظهور الفيسبوك، وواتس آب. ونحن الذين كنا نقضي الساعات في السايبر أو الإنترنت كافيه نتشات مع العشرات حول العالم، أو نلعب لعبة Medal Of Honor شبكة (من غير بوازيك).

نحن الذين عرفنا معنى الكتاب، وقيمته وكيف نقدّر هذه القيمة حق قدرها، وكيف نجعلها تبقى حاضرة في حياتنا بشكل مستمر، ونحن الذين فشلنا فشلاً ذريعًا في قراءة الكتب الـ PDF على الكمبيوتر، أو الكتب الـ ePub على الجوال. لأن الكتاب بالنسبة لنا لم يكن قيمة معنوية فقط، وإنما كذلك قيمة مادية ملموسة، حاضرًا بجسده قبل أن يكون حاضرًا بروحه.

نحن الذين استطعنا التعامل مع الكمبيوتر حينما كان يستخدم نظام تشغيل ويندوز 95 Windows ونحن الذين تعاملنا مع الـ iOS 12 في أحدث إصداراته على الـ MacBook Pro وعلى الـ iPhone

نحن الذين جمعنا بين الضدين والنقيضين والمختلفين في كل شيء. ففي الوقت الذي رأى فيها أبائنا الكمبيوتر كـ (لعب عيال) ولم يستطيعوا أبدًا استخدامه أو التعامل معه، كنا نتعلم البرمجة والتطوير لأننا ندرك أن المستقبل كله سيعتمد على ما نفعل الآن حتى لو كان مجرد (لعب عيال). نحن الجيل الذين انتشرت فيه جملة (اتعلم لغة وكمبيوتر) إشارة لمفردات التحكم في المستقبل.

أين نحن الآن؟

الآن أصبحنا آباء .. ورأينا وتيرة الحياة تتحرك بسرعة رهيبة نحو الأمام .. نعم نجاريها، ونحاول اللحاق بها ولكنها ترهق ذلك الجيل الرقيق الذي اعتاد وتيرة حياة كلاسيكية نوعًا ما.

الكثير منا يعاني من النوستاليجا. لست وحدي. أبناء جيلي جميعهم يعاني منها. حتى المشاهير يعانون منها بشكل كبير. أحمد مكي مغني الراب والممثل المصري المشهور لم ينشيء صفحة أو حساب على الفيسبوك إلا منذ عامين تقريبًا، وكأن نفسه ترفض هذا التوتر الاجتماعي المُسمى بالسوشال ميديا. كذلك هو واحد من الناس الذي تميل نفسه إلى تذكر الماضي في الكثير من أعماله مثل (وقفة ناصية زمان) و(طير إنت).

الراحل د. أحمد خالد توفيق ظل يعاني منها في جميع كتاباته حتى توفاه الله. بل إنه أنشأ سلسلة روائية كاملة – ما وراء الطبيعة د. رفعت إسماعيل – تدور أحداثها كاملة في الماضي، ولم ينتقل إلى المستقبل ولو مرة واحدة فيها.

هذا غير الكثير من الفئات العاطفية المنتشرة في المجتمع، والتي دائمًا ما تمجد الماضي وترى فيه الكثير من الخير، وتتحسر على الحاضر منزوع البركة.

هل هي حالة عامة؟

لا أدري حقيقة، ولكنني أتحدث عن نفسي، وأتساءل: لماذا دائمًا ما تبدو لنا لحظات الماضي جميلة، مليئة بالحنين والرومانسية، على الرغم من إمكانية استشعارها – ومحاولة تكرارها – في الحاضر؟ لماذا تبدو لنا اللحظات التي مرت – ولن تعود أبدًا بالطبع – لحظات ثمينة ثرية ينبغي أن نبقى في أثرها دائمًا؟

حقيقة أنا لا أدري!

هل تدري أنت؟