النحو علم رائع، ممتع، ولكن قلة المشتغلين به في العصر الحديث، والمتعمقين في علومه، والمتحدثين به في المنابر الإعلامية، جعل منه صناعة نادرة، وبسبب قلة المدرسين البارعين في فنون النحو، وضعف العمل عليه كمادة تدريسية، لم نحصل على المعلم المثالي الذي يحبب الطلاب في مثل هذه المادة، بل على العكس، يذكر معظمنا أنه ما كره النحو إلا بسبب مدرس لم يستطع توصيله بالشكل الصحيح له.
قديمًا كان الوضع يختلف عن هذه الأيام. فاللغة كانت مقدرة، ولها أساتذتها وعلمائها. فقلما تجد لسانًا يلحن في اللغة، اللهم إلا رجل من العامة لم يتبحر في علوم اللغة، أو أعجمي اللسان، لا يفقه العربية.
وعلى سيرة الأعجمي، جاء رجل أعجمي الأصل إلى مجموعة من دارسي اللغة، وأراد أن يتفاخر عليهم بلغته العربية الفصيحة على الرغم من كونه فارسي، وكم هو بارع في اللغة، ولا يبارزه أحد إلا غلبه. فأشار إليه أحد الطلبة إلى بيت عالم كبير من علماء اللغة، وقالوا له: اذهب إلى بيت فلان، فهو أعلمنا باللغة، وسيدرك إن كنت عربيًا أم أعجميًا بدون أن تخبره.
فانطلق الفتى مليئًا بالتحدي نحو المنزل، وطرق الباب، ففتحت له فتاة صغيرة، فسألها: يا بنيتي، أين أبوكِ؟
فردت عليه، فقالت: أبي فاء الى الفيافي، فاذا فاء الفيء فاء.(وهي تعني ان أباها ذهب الى الصحراء، فاذا حل الظلام أتى).
تلعثم الرجل، وقال: ماذا قلت يا بنيتي؟
فكررت عليه الجملة، فأخذ يراجعها، والبنت تكرر نفس الكلام، حتى نادت عليها أمها: من بالباب يا بنيتي؟ فقالت الفتاة: رجل أعجمي يسأل عن أبي يا أماه.
فكيف لو قابل أباها؟!
وكان أبو علقمة النحوي كثير التقرع بالألفاظ الغريبة، وكان خادمه أشد من يلقى من هذه الألفاظ، فاغتاظ منه، وقرر أن يثير حفيظته، فترصد له ذات يوم، وقرر أن يقارعه بمثلها.
فأصبح أبو علقة ذات يوم فسأل غلامه: أسقعت العتاريف؟
فاغتاظ الغلام من سؤاله الذي لا يفهم منه كلمة، فأجاب بأول ما خطر بباله: زوقفيلم.
فتعجب أبو علقمة وقال: وما زوقفيلم هذه؟
قال الغلام: وما سقعت العتاريف تلك؟
قال أبو علقمة: أسقعت العتاريف، أي: أصاحت الديكة؟
قال الغلام: وزوقفيلم، أي لم تصح بعد.
وهو هو أبو علقمة، حينما أتاه ابن أخيه، فسأله عن أبيه فقال الابن: مات.
فسأله أبو علقمة: وما علته؟
قال: ورمت قدميه
فقال مصححًا: قل ورمت قدماه.
فقال الفتى: فارتفع الورم إلى ركبتاه.
فقال أبو علقمة مصححًا: قل: ركبتيه.
فقال : دعني يا عم ، فما موت أبي بأشد علي من نحوك هذا ..!
أما ذلك النحوي الذي سقط في الحفرة، فجاءه كناس ليخرجه، قال له النحوي: اطلب لي حبلا دقيقا، وشدني شدا وثيقا، واجذبني جذبا رفيقا. فقال الكناس: ثكلتني أمي إن أخرجتك منها.
وذات مرة دخل نحوي السوق ليشتري حمارًا فقال للبائع:
أريد حمارا لا بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر. إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت علفه شكر. لا يدخل تحت البواري، ولا يزاحم بين السواري. إذا خلا في الطريق تدفق وإذا أكثر الزحام ترفق. فنظر له البائع لحظات في صمت، ثم قال: دعني، فإذا مسخ الله القاضي حمارا بعته لك.
وذات مرة كان أحد النحويين يتمشى مع صاحبه على نهر دجلة، فلمح فتاة تنظر من نافذة بيت فقال لصديقه:
"انظر إلى هذه الدعجاء الفيحاء السويحاء الوركاء الناهد الهرطل البنجويش السوتحيش الكاعب الراتب الريفون تطل من طويقتها الهرطاقة الرطاقة وكأنها القمر"
فقال له صاحبه: ما معنى قمر؟
========
التراث القصصي في هذا الجانب كبير للغاية، ذكر بعضًا منه أبو فرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني)، وذكر الباقي في أخبار النحويين، وطرائف القصص.
وأنا أحب علم النحو على الرغم من عدم تمكني منه، وتكرار أخطائي فيه، وأدرس دومًا لأطور من نفسي في لغة القرآن. فهل تحب النحو، أم أنك أحد ضحايا التعليم النظامي الضعيف؟
التعليقات