السلام عليكم. ليس من عادتي أن أكتب مقالات عامة ولا أملك حتى مدونة لأفكاري وآرائي فأنا شخص تقني بحت، إلا أنني قررت الكتابة عن هذه الظاهرة لأنني أراها تنتشر بشكل مرضي أشبه بالوباء بين الشباب عبر الإنترنت وهي من الخطورة بحيث أصبحت تثير الفتن والشقاق وتزرع اليأس في القلوب. ألا وهي الشعوبية الجديدة والتي أخذت هذه المرة طابعا رقميا.
- ما هي الشعوبية؟
سأبدأ بتعريف مختصر لهذا المصطلح لمن لا يعرفه: الشعوبية هي حركة ظهرت في أواخر العهد الأموي بدأت بالتنظير لفكرة ألا فضل للعرب على العجم وانتهت بأن أصبحت تعريفا لكل حركة أو توجه يحتوي في طياته احتقارا للعرب وانتقاصا من قدرهم.
- ما هي الشعوبية الجديدة؟
هي توجه شبيه بسابقه بدأت ألاحظ بوادره مؤخرا بعد ما يسمى بالربيع العربي الذي ذهب مع الريح، وساهم في نشره غلمان ورويبضات مواقع التواصل الاجتماعي الذين لا يعرفون سوى التلقي والمشاركة لكل ما هب ودب دون تمحيص. إلا أن هذه النسخة تختلف قليلا بأنها تأخذ منحى دينيا فتراها تنتقص من شأن المسلمين عامة وتبرز معايبهم ما استطاعت وتحاول أن تظهر مجتمعات الغرب والشرق بأبهى صورة وتصورها على أنها مجتمعات ملائكية.
- من هم رواد هذه الحركة؟
يتولى كبر هذه الحركة بعض العرب المغتربين الذين انبهروا بالحضارة الغربية ولم يروا سلبياتها لأنهم انصهروا فيها أصلا، وصارت معايير حكمهم على الأمور كمعايير أهل البلاد الأصليين وربما أكثر، فأصبحوا بالتالي غير منصفين في رؤيتهم المقارنة بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم. إضافة لهؤلاء هناك جيش لا يستهان به من المغفلين الذين يصدقون قصصا خرافية عن الحضارة الغربية تعجز كتب الخيال عن وصف إنسانيتها، ومعظم هؤلاء لم يعش أصلا في دول الغرب وإنما انطبعت في خياله هذه الصورة الوردية عنها بسبب قراءات من هنا وهناك.
يضاف إلى هؤلاء مجموعات من المحرضين الذين يريدون إقناع أهل العالم العربي أنهم يعيشون في أسوأ الظروف على الإطلاق وأنهم في ذيل الأمم وأنه لا يوجد في بلادهم بصيص أمل أو بذرة خير، وذلك إما لأهداف سياسية كمحاولة التحريض على الثورة أو ما شابه، أو لأسباب أيدولوجية هدفها الترويج للأحزاب والأفكار العلمانية أو غيرها وذلك في خضم معركة هؤلاء مع الحزبية المنتسبة للإسلام (تقصدت ألا أسميها إسلامية أو أنعتهم بالإسلاميين).
أخيرا هناك للأسف الشديد مجموعات لا بأس بها تنتمي في معظمها إلى دول عربية فقيرة، وهؤلاء لا هم لهم سوى تشويه سمعة دول الخليج العربي وأهلها وبألفاظ مقززة منفرة يندى لها الجبين، لو طلبت منه وصف اليهود المحتلين ما استطاع أن يأتي بمثلها! هؤلاء وإن تدثروا بالمبدأ ونسبوا لأنفسهم العقل والفهم ما هم إلا مجموعة حساد يتمنون زوال النعمة عن إخوانهم لأن الله لم يمن عليه بمثلها، فلا يمكنني تصديق أن هكذا أوصاف وألفاظ تخرج من إنسان غيور على الأمة ويريد إصلاح حالها.
- ما هي مظاهر هذه الحركة؟
ينتشر الجزء الأكبر من هذه الحركة على شبكة الإنترنت وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي والتي يغلب على روادها – للأسف الشديد – السطحية والسذاجة والميل لتصديق أي شيء ينشر، وهم أبعد ما يكونون عن التمحيص والتدقيق أو حتى تحليل ما يعتبرونه أدلة دامغة بشكل علمي ليعرفوا صحته من عدمها. سأطرح هنا بعض الأمثلة ليس بغرض الدفاع عن رأي معين، بل لإثبات سطحية وسذاجة معظم طروحات هؤلاء الشعوبيين وأن الرد عليها وعلى أشباهها ممكن وأن هناك مكانا لتحكيم العقل بدل العاطفة الجياشة.
لنبدأ بالمقارنات الصورية التي تجمع عادة أمرين لا علاقة بينهما سوى في خيال مصممها. كمثال حي عليها يستحضرني وأنا أكتب هذه السطور تصميم قام واضعه برص صورتين مع بعضهما. الصورة الأولى لرهبان بوذيين يخلعون أحذيتهم على مدخل معبد بشكل مرتب كأنها سيارات تصطف في موقف، تليها صورة لمجموعة من المسلمين على باب مسجد امتلأت خزائن أحذيته عن آخرها وتبعثرت أزواج أخرى على الأرض هنا وهناك، ثم عنون هذه الصورة كاتبا "ونريد أن نغير العالم" من باب الاستهزاء، وكتبها هذا “الدكتور” المقيم في لندن بالعربية والإنجليزية والفرنسية إمعانا في نشر الفضيحة على صفحته في الفيسبوك! لو أردت الرد على تفاهة هذا الطرح لما كفتني عشر صفحات، لكن لنطرح بعض التساؤلات: ناهيك عن مقارنة العقائد بين التوحيد والشرك حيث أن هذا الطرح قد لا يعني غير المسلمين المؤمنين بعقيدة التوحيد، هناك أيضا تساؤلات أخرى تطعن في مستوى فهم ناشر الصورة إن أحسنت الظن، وفي نيته إن أسأت الظن. ألا يوجد في العالم غير هذا المسجد؟ ثم ما العيب في اصطفاف الأحذية بشكل عشوائي بعد امتلاء الرفوف المخصصة؟ يا ترى كم نسبة النساك البوذيين الذين يتوافدون على معبدهم بالنسبة لمصلين في مسجد قرية متوسطة الحجم وقت صلاة الجمعة؟ هل النظام والانضباط لا تحكمه معايير سوى طريقة صف النعال؟ يا ترى هل آذى المصلون في المسجد الذي التقطت فيه الصورة أحدا كما حرض الرهبان على ذبح مسلمي الروهينغيا في ميانمار؟ (نعم ربما ليسوا هم الرهبان الظاهرين في الصورة، لكنني أتعامل بأسلوبهم في انتقاء الأسوأ) ألم يفرحك عدد المصلين الكبير الداخلين للمسجد وأنت تقدم نفسك كمسلم غيور على دينه ولم تر إلا ما هو سلبي؟ هل تريد وأنت تعيش في لندن أن يصل لأهلها هذه الصورة عنا؟ ألا يشفع لهؤلاء المصلين صغر مساحة المدخل مقارنة بمساحة المسجد؟ أخيرا والأهم: ما الهدف من نشر هكذا صورة؟ هل هكذا حللت مشكلة النظام والانضباط؟
بخلاف هذه الصور السخيفة وأشباهها التي تستقطب عشرات آلاف الإعجابات ومثلها مشاركات، هناك جانب آخر هو المقارنات المبتورة بين مجتمعات الغرب ومجتمعات العرب في قضايا كثيرة. سأبتعد هنا عن قضايا الفساد والمحسوبية ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب إقرارا مني بتفوقهم علينا في هذا الأمر، مع تأكيدي على رفضي لأي أسلوب عقيم في حل هذا الإشكال وأهمها التحريض الطائش الذي يضر أكثر مما ينفع، وتأييدي لأي طرح عقلاني إن وجد لمحاولة نقاش مشاكل كهذه وحلها (لا أريد ثوارا رجاء!). القضية التي سأتناولها كمثال هي الحرية الدينية التي كثر تداولها، فكثيرا ما نسمع عبارات مثل أن الغرب يحترم كل الأديان وأن المساجد تنتشر في أوروبا بينما تخلو السعودية – مثلا – من الكنائس. ليكن بعلمك أولا أن إهمال الدين وعدم إيلائه أي قيمة لا يعتبر احتراما، وهذا هو ما يحدث في المجتمعات الغربية، فلا يهمهم إن كنت مسلما أو نصرانيا أو يهوديا أو هندوسيا. المهم أن تحترم القانون، والقانون يضع الحرية فوق الدين. فإن استهزأ احد بدينك ومعتقدك ومقدساتك ووصفها بأقذع الصفات فلا حرج في ذلك فحريته مكفولة تماما كحريتك في بناء مسجد وإقامة الصلاة. كما أن حدود "احترامهم" للدين إن اعتبرناه مجازا احتراما مقيد، فلا يسمح لك برفع الأذان خارج حدود المسجد، ولا وصاية لك على ابنتك التي جاوزت الثامنة عشرة من عمرها إن اختارت العيش مع "صديقها" حتى وإن كانت مسلمة، فدينها لا يقيد حريتها في هذه المجتمعات. أضف إلى ذلك أنها مجتمعات مادية بحتة تتناسب إنسانيتها طرديا مع الانتعاش الاقتصادي وترتفع عنصريتها بتدني مستوى المعيشة. لعلك تعرف الآن المعايير التي تحكم بها على هذه المجتمعات.
(فكرة: ألم يفكر أحد بمقارنة العجوز الأوروبية التي جاوزت الثمانين وبالكاد تمشي على عربة بعجلتين مضطرة لأن تشتري احتياجاتها بنفسها لأن أبناءها تخلوا عنها سعيا وراء دنياهم، بتنافس الأبناء في مجتمعاتنا في كسب رضا والديهم وإكرامهم عند كبرهم؟)
الجانب الثالث هي القصص والأساطير التي لا يكاد يصدقها عقل، لكن الكثيرين يصدقونها إن ذكر الكاتب اسم بلد كاليابان مثلا في القصة: في اليابان يدرسون الأخلاق فقط في الصفوف الأولى، في اليابان يمسح مدير الشركة أحذية الموظفين الجدد، في اليابان يحق لك المطالبة بتعويض مادي إن تأخرت معاملتك أكثر من 3 دقائق، اليابان لا يضيع فيها شيء فهم شعب ملائكي نسبة الأمانة فيه 100%. هل تحتاج هذه ردا أم أنها ترد على نفسها؟ وهناك من يبدع في تأليف قصص بشخصيات وحبكة وأحداث يقول بأنها حقيقة، ثم ينسبها لجاره أو لصديقه، ولا تتفاجأ عزيزي القارئ إن حدثت نفس القصة بنفس التفاصيل في أمريكا مرة وفي السويد أخرى وفي اليابان ثالثة!
- هل العرب مجتمعات مثالية؟
لا! مجتمعاتنا تنتشر فيها كثير من الأمراض والأوبئة التي لا يتسع المقام لذكرها من تقاليد اجتماعية ظالمة نتمسك بها أكثر من تمسكنا بالدين، ناهيك عن نسبة كثير منها إلى الدين رغم عدم وجود أي دليل شرعي معتبر سوى "هذا ما وجدنا عليه آباءنا". ليس غرضي من هذا المقال أن أدافع عن أي خطأ أو ظاهرة سلبية في مجتمعاتنا، بل للتنبيه على أن أسلوب "الردح" ونشر الفضائح لا يعالج المشكلة بل يزيد اليأس والإحباط ويعزز النظرة السوداوية. وكما قيل أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام.
إن كنت ترى ظاهرة سلبية حاول أن تبحث عن علاج لها، ابحث عن مهتمين يعملون معك، لا تنتظر شيئا من الحكومات ولا تضيع وقتك بانتقادها وسبها ولعنها وتحميلها كل المصائب. لدرجة أصبحت أرى من يرسب في امتحان الثانوية العامة يلقي باللوم على وزارة التعليم لصعوبة الأسئلة متجاهلا أن نسبة النجاح تجاوزت الـ 70%. ليس هذا طبعا إعفاء لها من مسؤولياتها وإنما محاولة طرح توجه جديد يتبنى المبادرة الفردية ويقطع الأمل بالتغيير الجذري الذي انتظرناه مع الثورات ولم يأت، لأنه وببساطة يبدو أن الخلل ليس في الحكومات وحدها بل أكاد أجزم أنها انعكاس لطبيعة المجتمع، بدليل أنه أعاد إفراز حكومات تشبه ما قام بإسقاطه وذلك بكل رضا واختيار منه.
لا تكن شعوبيا من حيث لا تدري، فالعرب فيهم خير لو بحثت عنه لوجدته، وشر لو بحثت عنه لوجدته، ولا تتبع هؤلاء الذين تنكروا لأنفسهم وأصبح كل همهم نكأ الجراح بدلا من تحديد الداء ووصف الدواء. فهؤلاء تعرفهم من طروحاتهم: لا يملكون سوى الانتقاد والتحقير والمقارنات السخيفة، فلن تجد منهم اقتراحا مفيدا أو انتقادا بناءا لأنهم ببساطة لا يملكونه، إنما يريدون سلوك الطريق السهل وإيهام أنفسهم أنهم هكذا أدوا ما عليهم.
قال صلى الله عليه وسلم: “إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم". رواه مسلم
التعليقات