حين نعيد النظر في معنى الحضارة الإنسانية ندرك أنها لم تنشأ من عظمة القصور ولا من شاهق الأبراج، بل من رفاه الإنسان، من طعامه ومائه وكرامته. فالحجر يبقى جامداً إن لم يسكنه بشر أحرار منتجون، أما الإنسان فإن عُمِّر بالعلم والصحة والكرامة صنع حضارة تتجاوز الزمان والمكان.
منذ بدايات التاريخ، كان استجرار المياه إلى الأراضي البعيدة عملاً حضارياً بامتياز، فشبكات القنوات التي ابتكرها السومريون والرومان والإسلاميون من بعدهم، لم تكن مجرد إنجاز هندسي، بل وسيلة لإحياء الريف وضمان الاكتفاء. وفي عصرنا الحديث، تُعَدُّ مشاريع إيصال الطاقة النظيفة إلى القرى النائية امتداداً لهذا المفهوم، فهي تُثبِّتُ الناس في أرضهم وتمنحهم حياة كريمة دون الحاجة إلى الهجرة القسرية نحو المدن.
إن نزوح المزارعين من قراهم إلى ضواحي المدن ليس سوى صرخة يائسة طلباً للعيش، فيتحول الفلاح الذي كان يغني الأرض إلى عامل منهك يطارد لقمة مشبوهة في ورشة أو معمل. بينما لو أُتيحت له فرص زراعة مستدامة، وأسواق لتصريف إنتاجه، وخدمات تعليم وصحة قريبة، لعاش بعزة، ولغنى بلده بخير يده. هنا تبرز قيمة اللامركزية الإدارية التي تحفظ الأطراف فلا تتركها فرائس للفقر والنسيان، بل تجعل التنمية شاملة، متوازنة، متجذرة في الأرض.
ولنا في الحاضر شواهد حيّة أيضاً:
في المغرب، أُطلق "المخطط الأخضر" وبرامج الطاقات المتجددة، وخاصة مشروع الطاقة الشمسية في ورزازات، الذي لم يكتفِ بتوفير الكهرباء، بل أعاد الحياة الاقتصادية لمناطق بعيدة عن المركز.
وفي السعودية، تعمل مبادرات "ريف" و"برنامج التنمية الريفية" على دعم صغار المزارعين بالنخيل والبن والعسل، وتوفير تقنيات حديثة لهم، بما يجعل القرى منتجة مستقرة.
أما في الإمارات، فقد تبنّت سياسات لتشجيع الزراعة الذكية وتوطين الصناعات الغذائية في الأرياف، بما يخفف الضغط عن المدن ويمنح القرى حيوية اقتصادية جديدة.
هذه القرارات القيادية ليست حجارةً صامتة، بل هي سنن حسنة، باقية الأثر، صدقات جارية بالمعنى الحقيقي؛ إذ جعلت التنمية تفيض على الناس جيلاً بعد جيل.
فالذي يبني البشر قبل الحجر، هو من يُشيِّد حضارةً لا تُنسى. الحضارة ليست في اتساع المدن وضجيجها، بل في حياةٍ كريمة متجذرة في الريف، حيث الماء متدفق، والطاقة متاحة، والمدرسة قريبة، والمستشفى حاضر. هناك فقط، يولد الإنسان الحر المنتج، وتُبنى حضارة متينة لا تهدمها الأيام.
التعليقات