في مجتمعاتنا، يبدو أن ثقافة "الحب" بمعناها السطحي أي الإعجاب والتبني دون مساءلة قد أصبحت أكثر حضورًا وانتشارًا من ثقافة النقد وإعادة تشكيل الأفكار. نحب الفكرة، الفن، القراءة، الدين، فقط لأننا ألفناها أو لأن الآخرين يفعلون، لا لأننا سبرنا غورها أو اختبرناها بوعي نقدي يعيد تشكيلها بما يلائم حاضرنا. ما الذي يجذب الشباب اليوم؟ ليس الجميع طبعًا، لكن نسبة كبيرة من الشباب تميل نحو المحتوى السطحي أو حتى الفارغ من أي قيمة فكرية. لماذا؟ لأنه ببساطة أسهل للهضم، وأقرب للإدمان، مثل "سناك" عقلي خفيف. لا يحتاج مجهودًا فكريًا، ويمنحك شعورًا سريعًا بالترفيه والرضا، لعقل متعب في مجتمع مرهق ومشتت ومثقل بالتناقضات. في هذه البيئة، تنشأ قواعد غير مكتوبة لكنها نافذة: لا تجادل، لا تشكك، لا تغيّر. ما وجدنا عليه آباءنا هو الحق. العادات والتقاليد مقدسة، والتجديد خطر. التلقين هو الأمان، والتفكير هو طريق العزلة أو الشذوذ. وهنا ينقسم الناس إلى فئتين: 1. فئة خائفة: تتبنى الخوف + التلقين + كراهية التغيير + عبادة الثابت. تنسحب من أي محاولة للتفكير النقدي خوفًا من المجتمع، من النظرة، من العزل، وتذوب في القطيع. 2. فئة تحب الأشياء سطحياً: تُحب الفن للحن، لا لأن الكلمات حرّكت وعيها. تقرأ للمتعة، لا لإنتاج معنى جديد. تُعجب بالكاتب لشخصه، لا لأفكاره. في الدين، تُحب شخصية أو مذهبًا دون فهم الأسس العميقة. في الفلسفة، تُعجب بنيتشه أو سقراط، لكن لا تولد سؤالًا واحدًا من أفكارهما. والنتيجة؟ نستهلك الأفكار، لا ننتجها. نردد، لا نعيد ترتيب المعنى. نبحث عمّا يُشبهنا، لا عمّا يُصدمنا ويوقظ وعينا. نحب ما نعرفه، لا ما نتحدى به أنفسنا. السؤال الجوهري: ما السبب في هيمنة هذا النوع من "الحب غير النقدي"؟ هل هو خلل تعليمي زرع فينا عادة التلقين لا التفكير؟ أم مجتمع يرفض التفرد ويحمي جماعيته بقوانين الصمت؟ أم ثقافة دينية واجتماعية أغلقت باب التساؤل باسم الثبات؟ أم هو ببساطة: خوف دفين من مواجهة المجهول؟
هل نحن نعيش في زمن انتصرت فيه ثقافة "الحب" على ثقافة "النقد والتغيير"؟
نعم، أتفق معك أن ما ذكرتِه يحمل قدرًا من الصحة، لكن دعيني أكون صريحة: لا يزال طرحك يقدّم "التفكير النقدي" كحل جاهز، وكأنه كبسولة سحرية تُمنح للطفل فتفتح مداركه دفعة واحدة. ولكن، عن أي تفكير نقدي نتحدث؟ وكيف يمكن أن نفكر أصلًا في بيئة لا تمنحنا حتى حق التفكير؟ نقول للطفل: فكّر، ناقش، اسأل وفي الوقت نفسه نحبسه داخل قفص تربوي محكم، قائم على الطاعة والامتثال. نقول له: لا تجادل، لا تشكك، لا تسأل كثيرًا. البيت سلطوي، والمدرسة تلقينية. وهنا أسألك: هل ترين أن المدارس اليوم تُعلّم التفكير فعلًا؟ أم أنها تكرّس ثقافة الحفظ والتلقين؟ هل نظام التعليم كما هو حاليًا يشجّع الطفل على أن يكون ناقدًا ومحلّلًا، أم أنه يدفعه إلى أن يكون مستهلكًا للمعلومة، لا صانعًا لها؟ أما المجتمع، فهو بدوره يحرس الجماعة من الانحراف عن المألوف عبر قوانين غير مكتوبة، لكن شديدة الفعالية: قانون العيب، الخوف، والعار. نقول إننا نريد من الطفل أن "يمضغ" الأفكار لا أن "يبلعها"، لكننا لا نمنحه حتى "أسنان التفكير". الطفل لا يحصل حتى على "الحليب الفكري الأول"، لأن مفرداتنا اليومية مشبعة بالتحكيم بدل التحليل، بالترهيب بدل التساؤل، بالعيب بدل الاحتمال. نكرر عليه عبارات مثل: لا تتفلسف، هذا الكلام أكبر منك، لا تناقش في الدين، لا تراجع التاريخ. ثم، وبكل براءة، نتساءل لاحقًا: لماذا لا يُبدع الجيل؟ لماذا لا يفكر؟ والإجابة ببساطة: لأنه خُنق قبل أن يتنفس. المشكلة إذًا ليست فقط في غياب مهارة التفكير، بل في غياب البيئة التي تسمح بوجودها. الحل لا يكمن في مجرد تدريس مهارة التفكير النقدي، بل في خلق بيئة تزرع جذور التمرد الفكري منذ الطفولة. بيئة تقول للطفل: فكّر، حتى لو ناقضت والدك. ناقش، حتى لو أغضبت شيخك. اسأل، حتى لو خذلت جماعتك. نحتاج إلى بيئة لا تقدّس الثبات، بل تحتفي بالتحول، بيئة تعلّم الاستمرارية لا الجمود، بيئة تجرؤ على إعادة سرد الدين، التاريخ، اللغة، والفن وفق واقع متغير ومتطور. إذًا، السؤال الحقيقي ليس: "كيف نُعلّم التفكير؟" بل: هل نملك الشجاعة لنسمح بالتفكير أصلًا؟ هل نجرؤ على كسر القالب المفروض، أم سنظل نطالب الأطفال بـ"المضغ" بينما نُجبرهم، نحن الكبار، على "بلع" ما لم يُصنع أصلًا لذوقهم ولا لعصرهم؟ وإزاء هذه المعضلة، يبرز سؤال مفصلي: كيف يمكن بناء بيئة فكرية تسمح بالتمرد داخل مجتمع لا يمتلك أساسًا هذه البيئة؟ هل يكون الحل في البدء بالتمرد رغم غياب البيئة؟ أم علينا أولًا أن نجهّز الأرضية التي تسمح بهذا التمرد؟ وإذا افترضنا أن هناك ثغرة يمكن من خلالها تجهيز هذه البيئة، فما هي هذه الثغرة تحديدًا؟
تعليقك يا رنيم مثير للتفكير، وما لفت انتباهي تحديدًا هو سؤالك الأخير هل نبدأ بالتمرد رغم غياب البيئة؟ أم ننتظر تجهيز الأرضية؟ وأظن هنا أننا أمام معضلة الدجاجة والبيضة.
البيئة لا تُخلق من فراغ، بل تُنتَج من تراكم أفعال صغيرة، فردية، تبدأ غالبًا من التمرد الفردي غير المرحب به.
قد لا نملك البيئة الكاملة، لكن نملك مساحات التشويش على الثبات.
طفل واحد يُسمح له بالجدال في بيته، طالبة تُسأل عن رأيها الحقيقي في الصف، معلم يُقرّ بأنه لا يعرف كل شيء… هذه كلها شقوق صغيرة في الجدار السميك، لكنها تنمو.
لذا أرى أن الحل ليس في انتظار التربة، بل في زراعة البذور رغم صلابة الأرض.
لأن البدء في التمرد الفردي، حتى في بيئة خانقة، هو ما يصنع البيئة المستقبلية وإلا سنظل كما نحن لا تغيير
أتفق معك جزئيًا، ولكن زرع البذور في الأرض القاسية قد يبدو أمرًا جميلًا، لكنه في الواقع ليس دائمًا فعلاً يأتي بنتيجة واضحة. أحيانًا لا تنمو هذه البذور، لا لعيبٍ فيها، بل لأن التربة مصممة لتلفظها. في كثير من الحالات، يكون هذا الزرع مجرد استنزاف بطيء للوعي والجهد. نعم، التمرد الفكري قد يصنع شقوقًا في الجدار، لكن هل من المؤكد أنه سيثمر؟ أحيانًا، يُدفن هذا التمرد مع صاحبه، ويُمنع حتى من مجرد الذكر. نتحدث عن طفل يُسمح له بالجدال، في مجتمع يرى النقاش مع الأكبر "وقاحة". عن طالبة يُطلب منها أن تسأل، ثم تُسحق لاحقًا حين تعبّر عن رأي مختلف. عن معلم يعترف بجهله، فيُنظر إليه كـ"ناقص" لا كقدوة في التواضع الفكري. كلها محاولات جيدة، نعم، لكنها تبقى استثناءات هشّة لا يمكن أن يُبنى عليها مشروع تحوّل مجتمعي متكامل. المسألة أعمق من قصة زَهرة تنمو بين شقوق الإسمنت. نحن لا نواجه حاجزًا واحدًا، بل منظومة متكاملة تعيد إنتاج ذاتها يوميًا: دينيًا، اجتماعيًا، تربويًا، وثقافيًا. إنها آلة ضخمة تصب الإسمنت كل صباح، لتغلق أي شق قد يتسرّب منه الوعي. فمن أين نبدأ؟ هل نواصل الزرع، ونحن نعلم أن الأرض سترفض البذور وربما تجلد من غرسها؟ أم أننا بحاجة لإعادة التفكير في آلية الزرع ذاتها؟ ربما لا يكفي التسلل بين الشقوق، بل نحتاج إلى التعامل مع آلة صبّ الإسمنت نفسها، تفكيكها، تعطيلها، أو على الأقل، كشف آلياتها أمام من لم يروها من قبل. التمرد الفكري الإيجابي جميل، نعم، لكنه يحتاج إلى ما يحميه. الحرية لا تعني فقط أن تقول رأيك، بل أن لا تُقمع بعد أن قلته. ما طرحتهِ قد ينجح في زاوية محددة، في صفّ، في أسرة، في نادٍ فكري صغير، لكن هل يمكن تعميمه؟ هل هو بذرة صالحة لكل أرض، أم أنها تحتاج لتربة معينة ومناخ خاص؟ هل نحن ندور في حلقة مغلقة؟ وإذا كانت كذلك، كيف نفتح فيها شقًا يتحول إلى طريق مستقيم؟ طريق يحتمل التبرعات الفكرية، يسع الاختلاف، ويُنبت احتمالات جديدة. والسؤال يبقى مفتوحًا، بل يتجذّر أكثر: كيف نمنح التمرد الفردي فرصة أن يتحول من وميض خافت إلى شعلة مستمرة؟ من فعل مقاومة إلى ثقافة متجذّرة؟ من هامش هش إلى سياق عام يُنضج المجتمعات، ويوسّع حدود التفكير، سياق لا يرعبه السؤال، ولا يحرجه التغيير؟
حتى لو لم تُثمر كل بذرة، فإنها تغيّر التربة. أحيانًا لا نزرع لنحصد، بل لنُضعف صلابة الأرض التي ترفض الزرع.
كل تمرّد فردي وإن بدا هشًا هو تشويش صغير على آلة الإنتاج التقليدي، وكثير من هذه التشويشات المتفرقة قد تخلق خللاً في النظام، أو على الأقل، تساؤلًا لدى من لم يسأل من قبل.
أما عن تفكيك الآلة فهو طموح مشروع، لكنه يبدأ كما أرى من كشف آلياتها أولًا، بالتعليم، بالفن، بالنقد، بالأسئلة التي لا تجد إجابة جاهزة. وربما لا نملك رفاهية انتظار تربة مثالية لكننا نملك خيار ألا نكون سمادًا للتكرار.
ربما الجواب ليس في تحويله إلى ثورة شاملة دفعة واحدة، بل في بناء شبكة مقاومة فكرية صغيرة، ذكية، متصل لا تُقمع بسهولة، لأنها لا تُواجه بصخب، بل تنمو بهدوء مثل الشقوق التي لا تُرى حتى تفتح جدارًا. ولو لديك حلولًا أسرع أسعد بسماعها بالتأكيد
هل يمكن تسريع هذه العملية؟ نظريًا: نعم، بالإمكان ذلك. عمليًا: لا، الأغلب أنها تحتاج وقت طويل لتؤتي ثمارها.
صحيح أن التشويشات الفردية تحدث شقوقًا صغيرة في آلة التكرار، لكنها غالبًا ما تكون بطيئة التأثير، لأن الآلة نفسها ضخمة جدًا مقارنة بهذه الشقوق المتناثرة. لذلك، بدلًا من إحداث شروخ عشوائية، نحتاج إلى معرفة مركز الآلة، نقطة التحكم الجوهرية فيها، لنضرب بعمق ونُسرّع التغيير.
أما الفكرة التي طرحتها أوافقك الرأي بها وهي بناء شبكة مقاومة فكرية فهي ضرورية، لأن الجهود الفردية مهما كانت نبيلة تبقى محدودة ما لم تترابط. المشكلة أن هذه الشبكة لا يمكن أن تتشكل تلقائيًا، حتى لو كان الأفراد المتفرقون يحملون نفس الفكرة.
هنا تظهر الحاجة إلى شخص أو جهة تجمعهم، قائد واعٍ أو منسّق مسؤول يعرف كيف يطلق الفكرة، يربط بين الناس، وينشئ مساحات تواصل وتبادل فكري.
طالما بقينا متفرقين، سيظل التأثير بطيئًا وهشًا. أما إن تحوّلت تلك التشويشات الصغيرة إلى شبكة فكرية متصلة، فهنا فقط يمكن أن نُحدث الفرق الحقيقي وبشكل أسرع.
التعليقات