في مجتمعاتنا، يبدو أن ثقافة "الحب" بمعناها السطحي أي الإعجاب والتبني دون مساءلة قد أصبحت أكثر حضورًا وانتشارًا من ثقافة النقد وإعادة تشكيل الأفكار. نحب الفكرة، الفن، القراءة، الدين، فقط لأننا ألفناها أو لأن الآخرين يفعلون، لا لأننا سبرنا غورها أو اختبرناها بوعي نقدي يعيد تشكيلها بما يلائم حاضرنا. ما الذي يجذب الشباب اليوم؟ ليس الجميع طبعًا، لكن نسبة كبيرة من الشباب تميل نحو المحتوى السطحي أو حتى الفارغ من أي قيمة فكرية. لماذا؟ لأنه ببساطة أسهل للهضم، وأقرب للإدمان، مثل "سناك" عقلي خفيف. لا يحتاج مجهودًا فكريًا، ويمنحك شعورًا سريعًا بالترفيه والرضا، لعقل متعب في مجتمع مرهق ومشتت ومثقل بالتناقضات. في هذه البيئة، تنشأ قواعد غير مكتوبة لكنها نافذة: لا تجادل، لا تشكك، لا تغيّر. ما وجدنا عليه آباءنا هو الحق. العادات والتقاليد مقدسة، والتجديد خطر. التلقين هو الأمان، والتفكير هو طريق العزلة أو الشذوذ. وهنا ينقسم الناس إلى فئتين: 1. فئة خائفة: تتبنى الخوف + التلقين + كراهية التغيير + عبادة الثابت. تنسحب من أي محاولة للتفكير النقدي خوفًا من المجتمع، من النظرة، من العزل، وتذوب في القطيع. 2. فئة تحب الأشياء سطحياً: تُحب الفن للحن، لا لأن الكلمات حرّكت وعيها. تقرأ للمتعة، لا لإنتاج معنى جديد. تُعجب بالكاتب لشخصه، لا لأفكاره. في الدين، تُحب شخصية أو مذهبًا دون فهم الأسس العميقة. في الفلسفة، تُعجب بنيتشه أو سقراط، لكن لا تولد سؤالًا واحدًا من أفكارهما. والنتيجة؟ نستهلك الأفكار، لا ننتجها. نردد، لا نعيد ترتيب المعنى. نبحث عمّا يُشبهنا، لا عمّا يُصدمنا ويوقظ وعينا. نحب ما نعرفه، لا ما نتحدى به أنفسنا. السؤال الجوهري: ما السبب في هيمنة هذا النوع من "الحب غير النقدي"؟ هل هو خلل تعليمي زرع فينا عادة التلقين لا التفكير؟ أم مجتمع يرفض التفرد ويحمي جماعيته بقوانين الصمت؟ أم ثقافة دينية واجتماعية أغلقت باب التساؤل باسم الثبات؟ أم هو ببساطة: خوف دفين من مواجهة المجهول؟
هل نحن نعيش في زمن انتصرت فيه ثقافة "الحب" على ثقافة "النقد والتغيير"؟
كل ما ذكرتي رنيم بنهاية المساهمة هو سبب مركب لما وصلنا له، وهذا ما جعلنا نعتاد الأفكار ونعتاد المعلومات بدلا من نقدها والتفكير حول مدى صوابيتها، لذا الحل برأيي أن نعزز مهارة التفكير النقدي، نعلمها لأولادنا ولمن حولنا، فبدلا من أن نقول للطفل عندما يسأل هذا ليس من اختصاصك أو مبكرا أن تسأل حوله، نحاول أن نبسط له الأمر ونناقشه ونحلل له الأمور، بدلا من استهلاك وابتلاع الأفكار كما نراها نحاول أن نمضغها أولا ونحللها لنعيد تشكيلها وفقا لتفكيرنا، وطبعا هذا يساهم فيه المدرسة بالتأكيد
نعم، أتفق معك أن ما ذكرتِه يحمل قدرًا من الصحة، لكن دعيني أكون صريحة: لا يزال طرحك يقدّم "التفكير النقدي" كحل جاهز، وكأنه كبسولة سحرية تُمنح للطفل فتفتح مداركه دفعة واحدة. ولكن، عن أي تفكير نقدي نتحدث؟ وكيف يمكن أن نفكر أصلًا في بيئة لا تمنحنا حتى حق التفكير؟ نقول للطفل: فكّر، ناقش، اسأل وفي الوقت نفسه نحبسه داخل قفص تربوي محكم، قائم على الطاعة والامتثال. نقول له: لا تجادل، لا تشكك، لا تسأل كثيرًا. البيت سلطوي، والمدرسة تلقينية. وهنا أسألك: هل ترين أن المدارس اليوم تُعلّم التفكير فعلًا؟ أم أنها تكرّس ثقافة الحفظ والتلقين؟ هل نظام التعليم كما هو حاليًا يشجّع الطفل على أن يكون ناقدًا ومحلّلًا، أم أنه يدفعه إلى أن يكون مستهلكًا للمعلومة، لا صانعًا لها؟ أما المجتمع، فهو بدوره يحرس الجماعة من الانحراف عن المألوف عبر قوانين غير مكتوبة، لكن شديدة الفعالية: قانون العيب، الخوف، والعار. نقول إننا نريد من الطفل أن "يمضغ" الأفكار لا أن "يبلعها"، لكننا لا نمنحه حتى "أسنان التفكير". الطفل لا يحصل حتى على "الحليب الفكري الأول"، لأن مفرداتنا اليومية مشبعة بالتحكيم بدل التحليل، بالترهيب بدل التساؤل، بالعيب بدل الاحتمال. نكرر عليه عبارات مثل: لا تتفلسف، هذا الكلام أكبر منك، لا تناقش في الدين، لا تراجع التاريخ. ثم، وبكل براءة، نتساءل لاحقًا: لماذا لا يُبدع الجيل؟ لماذا لا يفكر؟ والإجابة ببساطة: لأنه خُنق قبل أن يتنفس. المشكلة إذًا ليست فقط في غياب مهارة التفكير، بل في غياب البيئة التي تسمح بوجودها. الحل لا يكمن في مجرد تدريس مهارة التفكير النقدي، بل في خلق بيئة تزرع جذور التمرد الفكري منذ الطفولة. بيئة تقول للطفل: فكّر، حتى لو ناقضت والدك. ناقش، حتى لو أغضبت شيخك. اسأل، حتى لو خذلت جماعتك. نحتاج إلى بيئة لا تقدّس الثبات، بل تحتفي بالتحول، بيئة تعلّم الاستمرارية لا الجمود، بيئة تجرؤ على إعادة سرد الدين، التاريخ، اللغة، والفن وفق واقع متغير ومتطور. إذًا، السؤال الحقيقي ليس: "كيف نُعلّم التفكير؟" بل: هل نملك الشجاعة لنسمح بالتفكير أصلًا؟ هل نجرؤ على كسر القالب المفروض، أم سنظل نطالب الأطفال بـ"المضغ" بينما نُجبرهم، نحن الكبار، على "بلع" ما لم يُصنع أصلًا لذوقهم ولا لعصرهم؟ وإزاء هذه المعضلة، يبرز سؤال مفصلي: كيف يمكن بناء بيئة فكرية تسمح بالتمرد داخل مجتمع لا يمتلك أساسًا هذه البيئة؟ هل يكون الحل في البدء بالتمرد رغم غياب البيئة؟ أم علينا أولًا أن نجهّز الأرضية التي تسمح بهذا التمرد؟ وإذا افترضنا أن هناك ثغرة يمكن من خلالها تجهيز هذه البيئة، فما هي هذه الثغرة تحديدًا؟
تعليقك يا رنيم مثير للتفكير، وما لفت انتباهي تحديدًا هو سؤالك الأخير هل نبدأ بالتمرد رغم غياب البيئة؟ أم ننتظر تجهيز الأرضية؟ وأظن هنا أننا أمام معضلة الدجاجة والبيضة.
البيئة لا تُخلق من فراغ، بل تُنتَج من تراكم أفعال صغيرة، فردية، تبدأ غالبًا من التمرد الفردي غير المرحب به.
قد لا نملك البيئة الكاملة، لكن نملك مساحات التشويش على الثبات.
طفل واحد يُسمح له بالجدال في بيته، طالبة تُسأل عن رأيها الحقيقي في الصف، معلم يُقرّ بأنه لا يعرف كل شيء… هذه كلها شقوق صغيرة في الجدار السميك، لكنها تنمو.
لذا أرى أن الحل ليس في انتظار التربة، بل في زراعة البذور رغم صلابة الأرض.
لأن البدء في التمرد الفردي، حتى في بيئة خانقة، هو ما يصنع البيئة المستقبلية وإلا سنظل كما نحن لا تغيير
أتفق معك جزئيًا، ولكن زرع البذور في الأرض القاسية قد يبدو أمرًا جميلًا، لكنه في الواقع ليس دائمًا فعلاً يأتي بنتيجة واضحة. أحيانًا لا تنمو هذه البذور، لا لعيبٍ فيها، بل لأن التربة مصممة لتلفظها. في كثير من الحالات، يكون هذا الزرع مجرد استنزاف بطيء للوعي والجهد. نعم، التمرد الفكري قد يصنع شقوقًا في الجدار، لكن هل من المؤكد أنه سيثمر؟ أحيانًا، يُدفن هذا التمرد مع صاحبه، ويُمنع حتى من مجرد الذكر. نتحدث عن طفل يُسمح له بالجدال، في مجتمع يرى النقاش مع الأكبر "وقاحة". عن طالبة يُطلب منها أن تسأل، ثم تُسحق لاحقًا حين تعبّر عن رأي مختلف. عن معلم يعترف بجهله، فيُنظر إليه كـ"ناقص" لا كقدوة في التواضع الفكري. كلها محاولات جيدة، نعم، لكنها تبقى استثناءات هشّة لا يمكن أن يُبنى عليها مشروع تحوّل مجتمعي متكامل. المسألة أعمق من قصة زَهرة تنمو بين شقوق الإسمنت. نحن لا نواجه حاجزًا واحدًا، بل منظومة متكاملة تعيد إنتاج ذاتها يوميًا: دينيًا، اجتماعيًا، تربويًا، وثقافيًا. إنها آلة ضخمة تصب الإسمنت كل صباح، لتغلق أي شق قد يتسرّب منه الوعي. فمن أين نبدأ؟ هل نواصل الزرع، ونحن نعلم أن الأرض سترفض البذور وربما تجلد من غرسها؟ أم أننا بحاجة لإعادة التفكير في آلية الزرع ذاتها؟ ربما لا يكفي التسلل بين الشقوق، بل نحتاج إلى التعامل مع آلة صبّ الإسمنت نفسها، تفكيكها، تعطيلها، أو على الأقل، كشف آلياتها أمام من لم يروها من قبل. التمرد الفكري الإيجابي جميل، نعم، لكنه يحتاج إلى ما يحميه. الحرية لا تعني فقط أن تقول رأيك، بل أن لا تُقمع بعد أن قلته. ما طرحتهِ قد ينجح في زاوية محددة، في صفّ، في أسرة، في نادٍ فكري صغير، لكن هل يمكن تعميمه؟ هل هو بذرة صالحة لكل أرض، أم أنها تحتاج لتربة معينة ومناخ خاص؟ هل نحن ندور في حلقة مغلقة؟ وإذا كانت كذلك، كيف نفتح فيها شقًا يتحول إلى طريق مستقيم؟ طريق يحتمل التبرعات الفكرية، يسع الاختلاف، ويُنبت احتمالات جديدة. والسؤال يبقى مفتوحًا، بل يتجذّر أكثر: كيف نمنح التمرد الفردي فرصة أن يتحول من وميض خافت إلى شعلة مستمرة؟ من فعل مقاومة إلى ثقافة متجذّرة؟ من هامش هش إلى سياق عام يُنضج المجتمعات، ويوسّع حدود التفكير، سياق لا يرعبه السؤال، ولا يحرجه التغيير؟
حتى لو لم تُثمر كل بذرة، فإنها تغيّر التربة. أحيانًا لا نزرع لنحصد، بل لنُضعف صلابة الأرض التي ترفض الزرع.
كل تمرّد فردي وإن بدا هشًا هو تشويش صغير على آلة الإنتاج التقليدي، وكثير من هذه التشويشات المتفرقة قد تخلق خللاً في النظام، أو على الأقل، تساؤلًا لدى من لم يسأل من قبل.
أما عن تفكيك الآلة فهو طموح مشروع، لكنه يبدأ كما أرى من كشف آلياتها أولًا، بالتعليم، بالفن، بالنقد، بالأسئلة التي لا تجد إجابة جاهزة. وربما لا نملك رفاهية انتظار تربة مثالية لكننا نملك خيار ألا نكون سمادًا للتكرار.
ربما الجواب ليس في تحويله إلى ثورة شاملة دفعة واحدة، بل في بناء شبكة مقاومة فكرية صغيرة، ذكية، متصل لا تُقمع بسهولة، لأنها لا تُواجه بصخب، بل تنمو بهدوء مثل الشقوق التي لا تُرى حتى تفتح جدارًا. ولو لديك حلولًا أسرع أسعد بسماعها بالتأكيد
هل يمكن تسريع هذه العملية؟ نظريًا: نعم، بالإمكان ذلك. عمليًا: لا، الأغلب أنها تحتاج وقت طويل لتؤتي ثمارها.
صحيح أن التشويشات الفردية تحدث شقوقًا صغيرة في آلة التكرار، لكنها غالبًا ما تكون بطيئة التأثير، لأن الآلة نفسها ضخمة جدًا مقارنة بهذه الشقوق المتناثرة. لذلك، بدلًا من إحداث شروخ عشوائية، نحتاج إلى معرفة مركز الآلة، نقطة التحكم الجوهرية فيها، لنضرب بعمق ونُسرّع التغيير.
أما الفكرة التي طرحتها أوافقك الرأي بها وهي بناء شبكة مقاومة فكرية فهي ضرورية، لأن الجهود الفردية مهما كانت نبيلة تبقى محدودة ما لم تترابط. المشكلة أن هذه الشبكة لا يمكن أن تتشكل تلقائيًا، حتى لو كان الأفراد المتفرقون يحملون نفس الفكرة.
هنا تظهر الحاجة إلى شخص أو جهة تجمعهم، قائد واعٍ أو منسّق مسؤول يعرف كيف يطلق الفكرة، يربط بين الناس، وينشئ مساحات تواصل وتبادل فكري.
طالما بقينا متفرقين، سيظل التأثير بطيئًا وهشًا. أما إن تحوّلت تلك التشويشات الصغيرة إلى شبكة فكرية متصلة، فهنا فقط يمكن أن نُحدث الفرق الحقيقي وبشكل أسرع.
اتفق معك أنه أنظمة التعليم في الوطن العربي لا تشجع النقد بل الحفظ والتلقين.
ولكن أحيانا لا يجب أن نتعامل مع كل الأمور" بتفكير نقدي" يعني مثلاً لا أجد أن هناك تعارض بين أن يشاهد المرء فيديوهات القطط ويقرأ لأمبرتو ايكو بالمناسبة، بالمناسبة ارشح لكِ كتاب"كيفية السفر مع سلمون"
لذا من الأفضل التوقف عن جلد الذات باسم "الفكر" فليس كل من يحب الأشياء البسيطة يصبح إنسان سطحي، وليس كل مغاير لذائقتنا ننعته بالسطحية .
أعتقد أن هناك خلطًا في فهم ما طرحته أنا لا أهاجم البساطة، ولا أحتقر من يشاهد فيديوهات القطط أو يستمتع بالطبيعة على العكس، هذا جزء جميل من إنسانيتنا. لكن نقاشي لم يكن عن الذوق أصلًا، بل عن النية الفكرية والثقافية التي تفرض ذوقًا واحدًا وتكتم بقية الخيارات. أنا لم أقل إن التفكير النقدي يجب أن يطبّق على كل شيء، بل أشرت إلى أنه غائب عن بيئتنا تمامًا، وأننا لا نملك حتى الأرض التي تسمح له بالنمو. الفرق هنا كبير، وأرجو أن لا يُختصر الطرح في جلد الذات أو رفض الاختلاف. سؤالي كان وما زال: هل ترين أن البيئة التربوية والاجتماعية المحيطة بنا تسمح أصلًا للتفكير النقدي أن يوجد؟ أم أنها بيئة تقوم على الطاعة والتكرار والامتثال؟ وهل يمكن أن يُولد فكر حر في فضاء محكوم بالعيب والخوف والتلقين؟ أنا أطرح هذه الأسئلة ليس رفضًا للبساطة، بل دفاعًا عن حق كل فرد أن يفكر، أن يسأل، أن يختار ذوقه دون خوف من السخرية أو الإقصاء. لذا، دعينا لا نحرف النقاش عن جوهره: هل فعلاً نملك بيئة تحرّر الفكر؟ أم أن ما نملكه هو قشرة من الانفتاح تخفي قاعًا من الكبت؟
اؤيدك في فكرة أننا لا نمتلك في البلاد العربية مناخاً يسمح بالنقد والتفكير، ولا بيئة تشجع على ذلك، بالعكس أتذكر في صغري عندما كنت في مرحلة المراهقة كلما حاولت طرح إحدى الموضوعات الفكرية على أسرتي أو المقربين مني للنقاش قوبلت محاولاتي بالسخرية و الرغبة في تغيير الموضوع كان يقال لي ضمنياً كفى صداع أنتِ تزعجينا بكلماتك، وبعد عدة محاولات توقفت عن النقاش، حتى انضممت لورشة كتابة إبداعية وبها كنا نتناقش في الكثير من الموضوعات خاصة الفلسفية والتاريخية، ما حدث هو أنني قد وجدت مجموعة تشبهني ولديها نفس اهتماماتي، شعرت أن تفكيري قد ازدهر.
لاحظت أيضا أن غياب فكرة التفكير النقدي لدى الجمهور جعل عمليات النصب تتوسع، حيث أن يمارس أحدهم عملية نصب ما و الجمهور ساذج فيتم النصب عليه، لأن الجمهور لم يمارس عملية التفكير النقدي في حياته.
أيضا الكثير من المنشورات الغريبة التي أراها مكتوبة في مواقع التواصل الاجتماعي وأجد كثيرين يصدقونها خاصة الجيل الكبير، أصمت وأدعهم وفي داخلي بركان كيف تصدقون مثل هذا الهراء؟!
هل تعرفين لماذا قوبلتِ بالسخرية؟ برأيي، لأن طرحك كان فرديًا، في وسطٍ يتفق أفراده على فكرة معينة، ويؤمنون بثباتها وعدم قابليتها للتغيير. لذا، فهم غير مستعدين لاستقبال رأي جديد، لأنه ببساطة خارج عن مألوفهم. فيضعون حواجز داخلية أمامه، ويعتبرونه تهديدًا لهويتهم أو استقرارهم النفسي، فيعودون فورًا إلى "منطقة الأمان" التي اعتادوا عليها. المشكلة أعمق من مجرد رأي مخالف؛ فالكثيرون يرون أن ما يتفق عليه المجتمع هو بالضرورة صحيح، حتى وإن كان خاطئًا. وإذا تجرأ أحد الأفراد وخرج عن هذا "القطيع"، يُوصم فورًا بالشذوذ عن الجماعة. لا يُسمح له بالتعبير، خاصة إن كان في سن المراهقة، فيُفسَّر ما يقوله على أنه إمّا قلة احترام، أو خيانة لمعتقد راسخ، أو ببساطة: "أنتِ صغيرة ولا تفهمين بعد". وهكذا، يُقابل رأيك بالسخرية، لا لأنه تافه، بل لأنهم لا يملكون المساحة الداخلية لتقبّله، فهم يرون في كل فكرة متطورة أو جديدة "متطفلة" على منطقة الأمان الخاصة بهم. ولهذا، أعتقد أن قرارك بالتوقف عن النقاش حاليًا كان صائبًا من ناحية الحفاظ على طاقتك، لأنه من المؤلم الاستنزاف دون أي نتيجة ظاهرة. لكن، عندما تجدين مجموعة تشبهك فكريًا، تحتضنك، وتتقبل أفكارك، ستشعرين بالانتماء الحقيقي، وهذا أمر جميل ومهم. ومع ذلك، لدي سؤال لك: هل تبحثين فقط عن من يشبهونك لتقترحي عليهم أفكارك وتبادلينهم التأمل، أم أنك تملكين هدفًا أعمق؟ هل تسعين فعلاً لإحداث تغيير، لترك أثر فكري في محيطك؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فكيف تنوين تحقيق ذلك؟ كيف ستتركين بصمتك في المجتمع، ولو بشكل طفيف؟ كيف ستوسعين هذا "المجتمع الفكري" الذي تنتمين له، ليصل إلى فئات أوسع؟ وهل ترين نفسك قادرة على إيصال فكرتك لأكبر عدد ممكن من الناس؟
عندما كنت صغيرة كنت أحلم بتغيير العالم بأفكاري، كنت أعتقد أن العالم سيحبني ويتقبلني ويستمع لآرائي بكل بساطة، والواقع كان مغايراً جدا، حتى توقفت عن أي محاولات للتغيير
يكفي أن أقول لكِ أنني كنت من جيل ثورة يناير، عشنا أحلام و آلام فوق الاستيعاب لذا اعتقد أن مقولة ميلان كونديرا تصفني بدقة واتخذها شعاراً
"أدركنا مُنذ زمن طويل أنّه لم يعُد بالإمكان قلبُ هذا العالم، و لا تغيِيرُه إلى الأفضل، و لا إيقافُ جريانِه البائس إلى الأمام , لم يكُن ثمّة سِوى مُقاومةٍ وحِيدة مُمكنة : ألّا نأخُذه على محمل الجِد"
بالنسبة لمجموعتي فهم كانوا بمثابة وطن صغير لي، وطن أشعر فيه بالقبول وطن يمكن استيعاب شطحاتي الفكرية، في ذات الوقت كنت أساير المجتمع، أردد ما يعجبهم من قول واتماهى معهم، ربما أصبحت ارتدي الأقنعة مثلهم أو أصبحت أحيا بوجهين وجه الكاتبة المفكرة ووجه الفتاة المطيعة الطيبة.
اقولك سر حتى الآن لا أحب أن يرى أحد من عائلتي كتاباتي!! وهم لا يبدون اهتماما أيضاً
اتفق معك أنه أنظمة التعليم في الوطن العربي لا تشجع النقد بل الحفظ والتلقين.
وبيوت كثيرة أيضًا لا تشجع على المناقشة أو اكتشاف الذات أو أي جديد، يخافون من فكرة أن يتعلم أو يعرف أبناءهم شيئًا جديدًا، وتكون الطامة عندما يجدون أحد الأبناء قد بدأت تظهر عليه بوادر الاختلاف أو يتسائل في أمور لا يجب أن يسأل عنها أو يعرفها من وجهة نظرهم.
أعرف أشخاصًا يخافون من قراءة أبناءهم للكتب والروايات!
لذا من الأفضل التوقف عن جلد الذات باسم "الفكر" فليس كل من يحب الأشياء البسيطة يصبح إنسان سطحي، وليس كل مغاير لذائقتنا ننعته بالسطحية .
نعم، فهناك بعض الأشخاص أيضًا يستخدمون الأشياء التي قد تبدو سطحية كفاصل أو إجازة أو كهروب من حياة معقدة لبعض الوقت.
في هذه البيئة، تنشأ قواعد غير مكتوبة لكنها نافذة: لا تجادل، لا تشكك، لا تغيّر. ما وجدنا عليه آباءنا هو الحق. العادات والتقاليد مقدسة، والتجديد خطر
لو قلت لي هذا الحديث قبل عقدين أو ثلاثة لأتفقت معك، ولكن اليوم بدأت بعض المجتمعات تتمرد على عاداتها وتقاليدها. قد تكون هنالك بالفعل عادات تحتاج إلى تغيير وهناك بعض الناس مارسوا التفكير النقدي لها، ولكن في نفس الوقت عادات حدث بها تغيير ليس لأننا مارسنا التفكير النقدي بها، بل لأننا أردنا التمرد عليها ومسايرة الآخرين.
مسألة حب شيء ما بدون تفكير نقدي ، هذا لأننا عاطفيين للأسف، فلو قائد قام بالتطوع أو قدم عمل خيري، سنكن الحب تجاهه بدون تفكير، على الرغم من أننا لو فكرنا بشكل نقدي، ودراسة سلوك هذا القائد، قد نجد بأن قد قام بهذا الفعل كي يتظاهر أمام الاخرين بأن رجل خيّر، يعني العمل الذي قام به يصب في خانة "رياء". وكذلك المر ينطبق على حب المحتوى السطحي، فهذا نعزوه لسببين، الاول تراجع المحتوى الذي يتمتع بجودة مرتفعة أو لأننا أصبح اليوم هو عصر السرعة، السرعة في كل شيء، فإن كان المحتوى طويل قد لا نرغب في تضييع وقتنا عليه، ناهيك أننا أذواقنا مختلفة باتت اليوم. ممارسة التفكير النقدي للحب وطرح التساؤلات قد لا يكون الجمهور مستعدًا لممارسة ذلك. ولعوامل كثيرة.
التعليقات