أغلب مشاكل المبدعين عند العمل على فنهم هو شكله النهائي، فكل فنان يفكر في شكل عمله النهائي قبل أن يبدأ في أول خطوة فيه، وهذا يصنع نوع من المشاكل الفنية، والتي هي الفجوة الأبداعية، حيث عندما يبدأ الفنان في أولى محاولاته لإخراج فنه، فإنه يصدم بمدى الفارق بين ما كان يراه في عقله، وبين ما صنعت يداه على أرض الواقع، وهذا يفقده الثقة في فنه، وفي قدرته على الوصول إلى الحلم الإبداعي المثالي الذي يعيشه في خياله.
وهذه المعضلة هي سبب أن بعض المبدعين المشهورين يقولون بأنهم لم يصلوا إلى ما يطمحون إليه، رغم كل إبداعاتهم التي قد تملأ الدنيا كلها، وهذا لأنهم يلاحظون دائما في أعمالهم الفارق الكبير بين ما يطمحون وبين ما صنعت أيديهم، نظراً لتطور ذوقهم وقدرتهم على الملاحظة والنقد على مر سنوات الممارسة، والبعض يعتقد أن هذا النوع من جلد الذات هو ما يصنع تلك الأعمال العظيمة، لكن في الحقيقة هذا كلام مغلوط وغير صحيح.
هذه المعضلة ليست محفزة على الإنتاج كما تبدوا، بل هي مثبطة وسامة لأي مبدع، حيث حين يصل أي مبدع إلى عمل إبداعي عظيم، تتحول فرحته بما أنجزه إلى ضغط نفسي رهيب يجبره على إنتاج ما هو أفضل مما صنع، وأغلب الفنانين يقع فريسة لهذا الجلد النفسي العنيف، ويتوقف عن ممارسة فنه، وفقط نسبة ضئيلة من الفنانين من يتحمل هذا الضغط بدوافع أخرى غير الفن، قد يكون من أجل المال أو تحمل المرض، أو الحفاظ على الشهرة، أو لأنه ملتزم بعقد، لكن ليس بدافع الإبداع ولا بدافع الفن نفسه.
والمشكلة في هذة المعضلة النفسية، هي أنها السبب في تسويف معظم المبتدئين الموهوبين عن إنتاج عملهم الفني الأول، لأنها تسبب أشهر المعتقدات المغلوطة عند الفنان وهي الخوف من الخطأ أو الفشل، وكأن العمل الفني الأول هو الأخير، يريد له صاحبه ان يكون أفضل ما صنع، وكلما حاول العمل عليه، نظر إلى ما صنع فهاجمه الإحباط واليأس من تخيله لنظرة الناس إلى ما اقترفت يداه من شيء لا يقترب من عظمة ما في عقله، يخاف من أن يفشل فيما فرضه على نفسه، ولم يطالبه به أحد.
لذلك فمشكلة التوظيف والصياغة في الفن مشكلة تؤرق الجميع، المحترف قبل الهاوي، ولا تجعل أياً منهم راضياً عما صنع، وهذا ما حملني على محاولة إيجاد طريقة مختلفة في التفكير تساعدتي على تجاوز هذا الدرب المخيف، لأتمكن من تجاوز كل المعضلات النفسية التي تحيط به، ولم أجد إلا التحول إلى التفكير بمبدأ التجربة والخطأ.
وهو مبدأ إنساني قديم قدم الإنسانية نفسها، وهو سبب كل تقدمها وحاضرتها منذ استخدام النار وحتى الذكاء الإصطناعي،الذي تطور بسبب هذا المبدأ ذاته.
والمبدأ هو أن أي تجربةتبدأ بمحاولة ينتج عنها خطأ يتم تحليلة للاستفادة منه وتفاديه في المحاولة التالية وهكذا ...، حتى يتم تلافي معظم الأخطاء والوصول للهدف المنشود.
وهذا المبدأ يعتمد على إرتكاب الأخطاء بشكل عفوي، من أجل التعلم منها وتفاديها في المحاولات التالية، مما يُوجب على المجرب أن يتقبل الأخطاء ويتصالح معها، ولذلك فهو لا يحاول تخيل النتيجة النهائية لما يصنع، بل يترك التجربة ترشده لنهايتها.
بناء عليه فنتفيذ هذا المبدأ مبني على العمل المستمر وارتكاب الأخطاء وليس محاولة صنع شيء مثالي أو محاكاة ما في الخيال، وهذا لا يعني أن يتخلى الفرد عن طموحه وينجرف وراء التجارب، إنما الغرض منه استكشاف الطريق الموصل للهدف من خلال الاعتماد على التجربة والخطأ وليس التصورات المثالية.
كمثال إذا كنت أرغب في كتابة رواية خيال علمي يجب عليَ أن افرغ ما في رأسي من أفكار ومشاهد أولاً، ثم محاولة استكشاف الافكار التي يمكن الوصول إليها من خلال تلك المسودات، للخروج بفكرة فريدة من نوعها، وليس تنفيذ أول فكرة طرأ على ذهني فقط.
وهذا لا يعني أن الامر سيكون أسهل، أو أن معظم الإنتاج سيكون معطوبا، لأن الغرض من معالجة أخطاء التجربة هي تحسينها، وجعلها أفضل من ذي قبل، وإذا نظرنا عن كثب إلى أفضل الفنانين الممارسين، سنجد أنهم لا يخشون التعرف على ماضيهم، أو استكشاف أخطئهم السابقة، وهذا التصالح مع الأخطاء هو ما يجعلهم مبدعين وليس الخوف منه.
لأن الإبداع يعتمد على المغامرة بالخروج عن المألوف، وكيف يمكن الخروج عن المألوف، بينما يخاف الفنان من أن يخطئ في تنفيذه، فشجاعة تجاوز ألم الفشل، هي ما توصل إلى حلاوة الإنجاز.
لكني عندما حولت دفة تفكيري لتبني هذا المبدأ، وجدت صعوبة رهيبة في تقبله، بسبب التعود على عقلية الصياغة، التي تجبرني على إجابة سؤال مؤرق، كيف سيبدو عملي في نهايته؟ فحين أبدأ في كتابة مقطع سردي كمثال، افكر دائما وأتسائل هل سيكون قصة أم سيطول لرواية أم سيكون مجرد مقطع نثري لا ملامح له، وهذا ما يجعلني أترك العمل عليه للتفكير في كيفية صياغته قبل أن يكتمل، بل ويصعب عليَ استكماله إن بدت منه أي نقاط ضعف أولية، وكلما زادت معلوماتي عن كتابة القصص وتأليفها زادت معها صعوبة الخروج بعملي الأول، نتيجة خبرتي المسبقة بشكل الأخطاء التي يقع فيها الجميع ومحولاتي لتجنبها كلها، ومع كثافة قصصي النصف مكتملة شعرت بأن هناك خطأ ما، لماذا لا أتمكن من صياغة قصة واحدة رغم معرفتي بكل ما سبق.
ووجدت الإجابة في غياب مبدأ مهم وهو التمرين والتعود.
المشكلة ليست مشكلة معلومات وخبرات بل هي مهارة تكتسب بالممارسة.
مهارة تقبل الخطأ: ليست مجرد طريقة تفكير، إنما هي ألسوب عمل للدماغ يحتاج إلى تعود وتطوير مستمر، والتدريب هنا يكون من خلال التعود على الفصل بين عملية الإبداع وعملية الصياغة، فيترك الفنان لنفسه العنان في مرحلة الإبداع ليصنع ما يشاء، ثم يأخذ قسطا من الراحة، ويعود إلى العمل على مشروعه الفني كناقد ومراجع ليعالج الأخطاء التي وقع فيها خلال المحاولة الأولى، ثم يأخذ قسطا من الراحة، ويعود بعدها إلى عمله كفنان يحاول من جديد بخبرة محاولاته السابقة، ثم يرتاج ويعود لعقلية الناقد، وهكذا...، حتى يصل إلى الشكل النهائي لعمله الفني، الذي يمكن أن يكتشفه في منتصف عمله على المشروع كناقد، أي ليس من المفترض أن يكون على علم به من البداية.
وهنا الفرق بين عقلية التجربة والخطأ، وعقلية الطموح الفني، فالطامح يبدأ بتأمل الصياغة النهائية في خياله قبل البدء على المشروع، وتكون النهاية المتوقعة أهم عنده من مراحل العمل، فيمل بسرعة ويواجه ضغوط نفسية كبيرة خلال العملية، خاصة لو كان ملزماً بها، بسبب عقد قانوني ملزم أو دافع شخصي، بعكس صاحب عقلية التجربة والخطأ، فهو يترك التجربة الفنية هي من تجرفه إلى النهاية، بينما يقوم هو بتعديل مساره فقط بين كل محاولة وأخرى من أجل الوصول إلى النتيجة، أي أن مراحل العمل عنده أهم من النتيجة، لانه يتعلم ويتطور خلالها.
وهذا يعني أنه لكي تكون فناناً عليك أن تمارس الفن، وليس أن تحاول صنعه، فسواء كانت لديك فكرة مسبقة عما تريد عمله أم لا، فعليك أن تهتم بأخطاء التجربة وليس بتلافيها، لأن أخطائك هي ما ستجعلك تتطور، حتى لو وقعت في خطأ تعرفه مسبقاً، فالمعرفة الإدراكية، تختلف عن المهارة والقدرة على الإبداع الفعلي، لذلك فلكل شخص منا عضلة فنية لا بد أن تتدرب حتى لو كان على علم مسبقاً بمسار التدريب كله.
كمثال: إذا بدأت تلعب رفع الأثقال، وقرأت وشاهدت محتوى عن الموضوع وعرفت كيفية رفع الأوزان الثقيلة، فهل هذا يعني أنك ستتمكن من رفعها بعضلاتك؟ الإجابة هي لا، لأن عضلاتك لن تتحمل هذا الضغط وقد تتعرض لإصابة خطيرة إن حاولت، فمعرفة الكيفية شيء وممارستها شيء آخر، ولذلك سوف تحتاج إلى سنوات من التمرين حتى تتمكن من رفع أوزان ثقيلة، حتى لو كنت على علم بكل الطرق التي يمكن ان تسهل عليك حملها.
لذلك كل ما يجب عليَ وعلى كل كاتب أو فنان هو أن يتحمل الخطأ ويتقبله، ويقوم بهضمه وتحليله والتعلم منه، ويدرب نفسه على الفصل بين وقت الإبداع، وبين وقت النقد والصياغة، لأن هذا هو ما يصنع الأبداع.
وتذكروا بأن الرحلة أهم من الوصول، لأن الرحلة هي ما يعلمك، أما الوصول فما هو إلا استراحة بين الرحلات.
التعليقات