قسوة الحياة ليست إلا جزءًا من الحقيقة ووجهًا من أوجه الدنيا، ولكن قدّر الحكيم سبحانه أن التغيير الإيجابي يولد من رحم القسوة.

وحياتنا ليست في حقيقتها حياة واحدة، بل حياتين أو أكثر يفصل بينهما قسوة تصلح النفس أو تشوهها، فالابتلاءات العظمى من موت قريب عزيز، أو نجاة من موت وشيك، أو تعرّض لأذى نفسي أو جسدي بالغ، لا ترجع حياتنا بعدها كما كانت قبلها، إننا نولد بعدها أناس مختلفين كل الاختلاف، فالنار تصهر المعادن لتنقيتها من الشوائب، وتحرق الخشب ليصير رمادًا.

وحين نولد في حياتنا الثانية فنحن إما في انجلاء غمرة بؤس أو غرور، نجدد الحمد عليها كلما جدد الذهن ذكراها، وإما في تشوه شعور جميل كنا نحياه، ففقدناه إلى الأبد مع محاولاتنا الدائمة العودة إلى ذلك الشعور القديم ولكن هيهات للميت أن يرجع إلى الحياة مرة أخرى.

الزمن لا يتوقف والحياة لا ترجع إلى الوراء، ولكنها تتجمل أو تتشوه، لا بحسب الأحداث فحسب، بل بحسب ردة فعلنا تجاه تلك الأحداث، فالمتفائل يستطيع أن يرى البؤس القديم الذي عاشه نعمة أشعرته بقيمة الهبة الجديدة، ويبصر في التشوّه الجديد ابتلاء يزيده صبرًا وأجرًا ورفعة، ويتأمله تأملاً تامًا لا ليعذّب نفسه به، ولكن ليستخرج منه بعض مكامن الجمال، فلا قبح خالصًا، ولا جمال صافيًا.

والمتشائم يلوم الزمان وأهله ويرثي لحاله مهما تقلّبت به عواصف الدهر.

أنشأت هذه الكلمات بعد أيام من فقدي أمي الغالية .. وأنا أشعر حينها أن الأيام لم تعد هي الأيام