"ممكن توجد دولة اقتصادها مكتف بذاته، بحيث أنها توفر كل احتياجات سكّانها دون الحاجة إلى استيراد بضائع من دول أخرى؟ "

الجواب :-

ياااااااااه، أخيرًا حد سألني سؤال اقتصادي مثير لقريحتي، كنت فين من زمان يا عم الحاج بس؟ :D

شوف يا سيدي، هو السؤال عجبني آه، بس هو فيه مشاكل :D

وهي كالتالي:

أولًا: الدولة كإطار تحليلي أو نقطة مرجعية.

إحنا عندنا مشكلة ضخمة جدًا في الدراسة الاقتصادية الأكاديمية، أنها منفصلة بشكل كبير عن تحليل الواقع الاجتماعي، فبينشأ سؤال زي دا، بيبدأ من عند "الدولة"، بينما إحنا عندنا مشكلة كبيرة جدًا هنا، وهو أن الاقتصاد الذي نعيش فيه اليوم "نظام عالمي"، يعني فكرة أن الدولة ككيان كده لها أصلًا تحكّم فيه أو في مواردها دي فكرة ساذجة جدًا حاليًا وغير مقبولة.

إحنا عندنا كيانات مختلفة - أريد لها أن تكون كذلك، وليست كذلك في حقيقة الأمر - ، فيه "السوق"، وفيه "السياسة"، وفيه "المجتمع"

السوق دا، اللي بنتكلم عنه هنا، الدولة، أيًا كانت مين، ليس لها سلطان عليه، السوق دا برّة الدولة، أي خارج حدودها، السوق دا في العالم، الدولة "تتدخل" فيه، لكنها لا "تملكه" أو "تتسلّط" عليه، لكنها تتسلّط على "الشعب" اللي برضه أريد له أن يعتقد أنه مصدر السيادة، ما علينا من القصة دي، الدولة تقدر تتدخّل في السوق، لكنها متقدرش تملكه، هو سلطته أقوى منها بمراحل، وهنا ممكن ييجي في دماغك أمثلة لمنع جمركي هنا ولا هنا، ولا أيًا كان، ومش القصد خالص السلعة دي ولا دي ولا دي، كلمني يا باشا عن "العمالة"، وعن "رأس المال"، وأخبرني، أي دولة في العالم حاليًا تقدر تمنع رأس المال من الحركة؟، وأي دولة تقدر تمنع حركة العمالة لصالحه في أي مكان في الكوكب؟، الجواب: مفيش، إنما السلع الاستهلاكية دي كده كده هيتلعب فيها ومش هي المهمة هنا.

فالقصد، عندما نتحدث عن الأسواق، نحن نتحدث عن الأسواق الرأسمالية، أي سوق العمل، وسوق رأس المال.

وبالتالي، الدولة أي الدولة القطرية دي أصلًا وحدة تحليل غير صالحة عند الكلام عن "اكتفاء" لأنه "اقتصادها"، مش "اقتصادها" في الحقيقة، مش بتاعها يعني بشكل مباشر.

وعشان كده أذكر أن تشومسكي كان بيقول أن عدو الولايات المتحدّة الأمريكية، في الحقيقة لا هو الإرهاب، ولا الأصولية، ولا التعصب القومي، إنما عدوّها دولة قومية حقيقية تحمي نفسها من الدخول في هذا النظام.

ثانيًا: مشكلة الحاجة والندرة.

ايه هي الحاجات؟، السؤال ممكن يبان سهل من الخارج، لكنه ليس كذلك.

يعني أنت محتاج إيه؟، لنفترض مثال بسيط خالص.

دولة عاوز تشرّب شعبها مياه عذبة، لكنها لا تملك الأنهار، تمام؟، مطلّة على بحر، فهتحلي المياه، هنا هي محتاجة إيه؟، محتاجة تكنولوجيا، فهنسأل، هل عندها التكنولوجيا دي؟، لو الإجابة آه أو لأ ، تمام، هل عندها البنية التحتية الداعمة؟، آه، طب هل عندها القدرة والملاءة المالية؟ ، آه أو لأ، هل عندها بقا الإرادة السياسية القادرة على جمع هذه العناصر معًا؟، آه أو لأ؟ وهكذا، لاحظ أن حاجة واحدة ترتّب عليها عدد من الحاجات والسلسلة موقفتش هنا، ينفع نكمّلها بس هنختصر.

دا في حاجة أساسية زي المياه، لكن الاقتصاد ، علم الاقتصاد يعني، مش بيعرّف الحاجات بأنها الحاجات الأساسية، يعني اللي تستقيم بيها الحياة، لكن هو بيعرّفها أنها أي حاجة ينفع يحصل لها إشباع، فاسرح أنت بخيالك بقا زي ما تسرح، هيفضل فيه حاجات، لكن ليس الأمر فقط هنا، فهو فكرة "الإشباع" دي فكرة أساسًا رأسمالية في حد ذاتها، استقلال الاقتصاد لا يعني أن كل الحاجات مشبعة، على الإطلاق.

مشكلة الندرة ليها علاقة بحاجة بقا خلقها ربنا، وهي أن الموارد مش موجودة عند كل الناس بنفس القدر والوفرة، فطبيعي فيه تفاوت غصب عنك حاصل، بين الدول وهكذا.

أمر آخر متعلّق بالحاجات، وهو هامٌ جدًا كذلك، بل هو الأهم، المشكلة مش في الحاجات، المشكلة في "خلق الحاجات"، ودا شيء مهم لعمل النظام الرأسمالي واستمراره، فيه دوامتين بيعمل من خلالهم النظام الرأسمالي: إنتاج وإعادة إنتاج وتدمير الطبيعة البشرية والثقافة، وإنتاج وإعادة إنتاج وتدمير الطبيعة.

دا ليه؟، لخلق المزيد من الحاجات والرغبات، وبالتالي، خلق المزيد من السلع والخدمات، وبالتالي فوائض قيمة، تتحول إلى تراكم لرأس المال، وهكذا.

دي دورة حياة الرأسمالية، وطريقة عملها الأساسية.

وبالتالي، ودا متعلّق بالنقطة اللي فوق، مفيش حاجات هتتوقف عند درجة من الإشباع، لأنك كل يوم هتواجه بسيل من السلع، وخليني أديك مثال برضه على حاجة أساسية، وهي المياه برضه.

هل أنت محتاج زجاجة المياة البلاستيك اللي بتتباع في السوبر ماركت دي؟

أنا أقولك: لأ، قطعًا لأ، أنت مش محتاجها بأي صورة من الصور.

وقبل ما تكون موجودة، الناس كانت بتعرف تشرب في الشارع مياه نضيفة عادي جدًا، إما بحملها في قوارير أو في سبل الماء أو أيًا كان.

إيه اللي حصل هنا؟، "إعادة إنتاج الطبيعة البشرية"، اشتغلنا عليها عشان الناس تقتنع أن "المياه" سلعة قابلة للشراء، وهكذا..

أهه دي "حاجة أساسية" ، أي "طبيعة بشرية"، لكن أعيد إنتاجها لضمان إنتاج مربح رأسماليًا، وصلت؟

خد بقا كل حاجة في حياتنا المعاصرة، هتلاقيها إما تدمير للطبيعة البشرية أصلًا، أو إعادة إنتاج لها لتكون مربحة ماديًا، وهكذا..

ثالثًا: فوائض القيمة والمراكز والأطراف.

من المشكلات المتعلّقة بالحاجات أيضًا، هو أنه ولأننا في نظام رأسمالي، فالإنتاج، يتطلّب رأس مال وعمالة ومواد خام وغيره من ترتيبات مؤسسية وظروف مجتمعية وهكذا، المهمّ، خلينا نفترض أن دولة معينة، قادرة فعلًا على التفوّق الاقتصادي الفحيت، وإنتاج ما يكفيها من كل حاجة بقدرة تكنولوجية ومالية مهولة (دا حصل بالفعل، في حالة الولايات المتحدّة الأمريكية)، اللي بيحصل بعدين أن تكلفة تشغيل رأس المال بترتفع، وتكلفة العمالة بترتفع لما نقترب من التشغيل الكامل، أو المواد الخام بتقل وتكلفتها ترتفع (ما إحنا استهلكناها)، اللي بيحصل، أنه الدول دي بتنتقل لنمط معتمد على رأس المال (ببساطة إحنا اللي معانا الفلوس والتكنولوجيا) وبتروح تجيب مواد خام، وعمالة من حتت تانية، دا اللي حصل مع الصين مثلًا، أنها كانت أرخص في العمالة بأضعاف أضعاف أوروبا وأمريكا لأسباب كتير ليس مقام تفصيلها بس أبسطها أنهم كتير جدًا :D

فلازم ساعتها، أمريكا، money wise يعني، تروح تفتح شغلها في الصين وتنقل هناك، بينما مثلًا، الدول ذات الموارد الفظيعة لازم تحافظ عليها متخلّفة وغير قادرة على الاستفادة من مواردها دي، عشان تعرف تاخد الموارد دي بثمن بخس (ودا اللي حصل مع دول وسط وغرب آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، اللي هي مراكز مواد خام العالم وثرواته)، وهكذا..

فهي حتّى لو قادرة نظريًا على الاستفادة من إمكانيات اقتصادها في تحقيق ما تسميه بالاكتفاء، مش هتعمل دا، لأنه إحنا في نظام عالمي "رأسمالي"، يعني بيخدم على رأس المال، وليس الدول، فالقرارات اللي هتتاخد هتكون لصالح رأس المال.

عشان إنتاج "فوائض القيمة" يفضل شغّال، وبالتالي، إنتاج رأس المال المتراكم، وهكذا.

رابعًا: عدمية الممارسة السياسية

يضاف لهذه الأشياء فوق بقا، أنه أصلًا السياسيين بهاليل مخاريق ومجموعة من البهايم المنافقين، ولا فارق معاهم أي حاجة من دي، والممارسة السياسية عدمية بالكامل وغير مهتمة أصلًا بحل أي مشكلة، ودا يشمل العالم بأكمله، حتّى التيارات السياسية الأيدولوجية، اليمين بقا قاعد ينبح زي الكلاب في التفوق العرقي للبيض وطرد المهاجرين، واليسار قاعد يقول شواذ وسود وأفارقة ومتحولين جنسيًا وزفت.

محدش أصلًا مركّز مع مين بيعمل ايه والعالم شغّال إزاي، بينما يعمل الرأسماليون عبر مؤسسات التعليم والإعلام وعبر التنظيم العملي وترويج الأيدولوجيات اللي تخدمهم في كل لحظة، شوية يمين شوية يسار المهم اللي يخدمنا.

فهو لو افترضنا جدلًا أنهم أصلًا عارفين مشاكل العالم بجد، فهما مش هيبقا هدفهم الأساسي حلّها، وإنما التماهي معها والخروج بأكبر مكسب ممكن منها وخلاص.

فبينما يعمل الكبار في صمت، يجب على بهاليل هذا العالم أن يشغلوه بالنظر إلى أعداء مختلقين وغير حقيقين، ويشتتوا القوّة السياسية للشعوب، إما بالقمع لو ينفع، أو بتعميم الفردانية المفرطة، أو أنهم يقعدوا يقولوا لهم شوفوا بقا سياسات الهوية أو البوليتكال كوريكتنس أو أي حاجة اتلهوا فيها، أو سقوط فستان الفنانة هيفاء وهبي حتّى، المهم اتلهوا وخلاص، واعملوا مسرحياتكم في سلام، وناموا آمنين أنكم فعلًا تملكون صوتًا مؤثرين وأنكم تغيرون العالم، وبس شكرًا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

خلاصة الجواب يعني: طالما كنّا نعرّف الدولة بطريقة رأسمالية، ونعرّف الحاجات بطريقة رأسمالية، ويعمل اقتصادنا بطريقة رأسمالية، فإحنا جايين نهزر عندما نتكلم عن "استقلال" أو "اكتفاء" من أي نوع، حتّى لو كان استقلال في قرارك هتاكل إيه إنهاردة.

وصباح التفاؤل والأمل :D :D

-- الغازي محمد