من واقع دراستي الفترة الماضية في ورش الكتابة والتأليف السردي، تمكَّنت من فهم كيفية بناء أو تحليل الراوي في أي عمل سردي أو قصصي، وذلك عبر التحقُّق من أربعة محدِّدات، يرسم كل واحد منها جانباً من جوانب الراوي وإليكم هذه المحددات بشكل مبسط:
1. الراوي من حيث ضمير السرد
يميز هذا المحدد الراوي من حيث طريقة توجيهه للكلام خلال السرد، وينقسم إلى ثلاثة أشكال:
- الراوي بضمير الغائب (هو، هي، هم...): وهو الراوي الذي يحكي عن شخصية غير حاضرة. يمكن أن يروي في الحاضر أو الماضي، مثل: هو يفعل أو هي فعلت.
- الراوي بضمير المتكلِّم (أنا، نحن): وهو السارد الذي يروي عن نفسه، سواء في زمن الحال أو الزمن الماضي، مثل: أنا فعلت أو أنا أفعل.
- الراوي بضمير المخاطب (أنت، أنتما، أنتم...): وهو الراوي الذي يحكي عنك إليك، ورغم كونه غير شائع الاستخدام، إلا أنه موجود وله حضوره ويستخدم كذلك في كل الأزمنة، مثل: أنت فعلت، أنت تفعل.
2. الراوي من حيث علاقته بالزمن
أي الاتجاه الزمني الذي يشير إليه الراوي خلال السرد، وينقسم إلى أربعة أزمنة معروفة موزعة على قسمين:
القسم الأول: الزمن المتحرك
الزمن المتحرك هو الزمن الذي حدث أو الذي يحدث، وهما كالتالي:
- الرواية في زمن الماضي: عن أحداث مضت وحدثت بالفعل، وأشهر دلالاته في الكتابة لفظ "كان".
- الرواية في زمن الحاضر: عن أحداث تقع أثناء سردها، وأشهر دلالاته في النصوص وزن "يفعل".
القسم الثاني: الزمن المحايد
الزمن المحايد في السرد هو الأحداث التي لا يعلم القارئ من السارد هل حدثت فعلاً أو لم تحدث، ومن هذه الأزمنة ما يأتي:
- الراوي بزمن الاستقبال: في شكل توقعات أو تنبؤات، وأبرز دلالاته استخدام السين وسوف قبل الفعل المضارع.
- الراوي بفعل الأمر: أي صياغة النص على لسان الراوي في صيغة أوامر أو فرضيات، مما يحيد الزمن ويُربك القارئ.
مثال فعل الأمر
أن أقول بأن الملك قد قبض على زعيم الثوار، وأمر بتجهيز ساحة البلدة بالحطب، ووضع عمود من الخشب في وسطها، وربط المسجون إليها، وحرقه حياً، ورمي رماده في النهر، هنا أنا رويت كل هذه الأحداث بفعل الأمر، فحيَّدت الزمن، ولم تعد مُلزِمة لي ككاتب؛ فإن كان زعيم الثوار ما زال على قيد الحياة في الأحداث التالية، فحجة الكاتب أنه لم يقل إذا ما تم تنفيذ أمر الملك أم لا.
فائدة الزمن المحايد
أنه لا يُلزم الكاتب بالحدث الذي صاغه، فسواء التزم به أم لا في الحبكة فلا حرج عليه، لأنه لم يقطع بحدوثه. وهذا الحدث في ذاته يكون مُكمِّلاً للحالة أو مُعبِّراً عن معنى معين في القصة.
3. الراوي من حيث علاقته بالأحداث
المقصود هنا موقع الراوي من الأحداث، ويُقسَم إلى ثلاثة أقسام:
- الراوي الخارجي: وليس المقصود هنا العليم، إنما كون الراوي خارج نطاق أحداث القصة لا أكثر. يمكن أن يستخدم أي ضمير ويروي بأي زمن حسب صُنعة الكاتب ومناسبة الحكاية، إلا أن الشائع فيه الضمير الغائب مع الزمن الماضي.
- الراوي الداخلي: والمقصود منه سارد يشكِّل جزءاً من أحداث القصة، ويحكي القصة خلال حدوث تلك الأحداث. وهو كذلك قابل لاستخدام أي ضمير وأي زمن، لكن الأشيع فيه هو الزمن الحاضر والضمير المتكلِّم.
- الراوي المخضرم أو الوسيط: وهو الذي عاصر أحداث القصة أو أثَّر وتأثَّر بها أو كان شاهداً عليها، لكنه خرج منها ويحكيها بعد أن انتهت بزمن طويل. والشائع فيه استخدام الزمن الماضي مع الضمير المتكلِّم.
4. الراوي من حيث المصداقية
وهي مدى صدق الراوي في نقل أحداث القصة، وينقسم إلى أربعة أقسام:
- الراوي المطلع العليم: الذي يمكنه الغوص في بواطن الشخصيات وكشف كل الأحداث. وقد كان شائع الاستخدام في الماضي، إلا أنه صار يحتاج إلى مبرر قوي لاستخدامه في السرد الحديث.
- الراوي الشخصي: الذي يعرف زاوية خاصة من الحكاية ولا يطَّلع إلا على ما يبصره ويسمعه فقط، وهو يشارك القارئ في جهل ما خفي عنهما.
- الراوي المتلاعب أو غير الموثوق: وهو الذي يحاول أن يخدع القارئ خلال السرد، إلا أن التأمُّل في أحداث القصة يكشفه، وهو يضع القارئ في حالة تفكير وشك مستمر في كلامه.
- الراوي المتدخِّل أو المعلِّق: وهو مطَّلع على كل شيء، لكنه لا يتدخَّل في دواخل الشخصيات، إنما يحكم عليها ويعلِّق على أفعالها، وهو كذلك يحتاج إلى مبرر قوي لاستخدامه في السرد، حيث إنه غير مقبول نقدياً.
هذه المحددات الأربعة يمكنها أن تساعد أي كاتب في بناء الراوي الخاص به بدقة كبيرة، مما يمنعه من الوقوع في أخطاء جسيمة خلال سرد الأحداث، كما أنها تساعد القارئ على تحليل الراوي ومعرفة مدى كفاءة الكاتب في توظيفه في الحكي، فقد صار الراوي في الأعمال السردية منفصلاً عن المؤلِّف ولم يعد لهما نفس الكيان.
التعليقات