كانت معلمتنا "نجاح" تدخل الفصل وكأنها عاصفةٌ قادمةٌ من عالم الأرقام القاسي. عيناها الواسعتان، اللتان تكبران أكثر حين تضع نظارتها السميكة، كانتا ترمقاننا كأنهما تبحثان عن ضحيةٍ جديدة. لم تكن مجرد معلمة رياضيات، بل كانت حَكَمًا لا يرحم في مملكة الجبر والهندسة.

كنت من الأوائل في الرياضيات، أتفوق في الاختبارات وأحل المسائل في دفتري بسهولة. لكن كل شيء كان يتغير حين تنادي اسمي: "يوسف، تعال إلى اللوح!" في تلك اللحظة، كان قلبي يتسارع، ويدي ترتعش، وكأن كل الأرقام التي أعرفها تتحول إلى كوابيس. كنت أقف أمام اللوح الأسود وأرى المسألة وكأنها كتابةٌ بلغةٍ غريبة، بينما تنتظر هي خلفي، مسطرةُ الخشب الطويلة في يدها كسيفٍ مُسلط.

لكن أسوأ ما فيها كانت "الكمشة" الشهيرة: إذا أخطأ أحدنا، كانت تأتي من خلفه بيدها الباردة، تمسك شعرَه من عند السوالف وتشدّه ناحية اللوح، كأنها تريد أن تلصق رأسه بالمسألة التي لم يحلها! أتذكر كيف كانت أصابعها تشد شعري وكأنها تخلع ذاكرتي معه. في تلك اللحظات، كنت أتمنى لو أن الأرض تبتلعني.

ذات يوم، بينما كنت أحاول حل مسألة القسمة الطويلة، ارتبكتُ تمامًا. سمعتُ ضحكاتٍ خافتة من زملائي، وشعرتُ بيدها تقترب. لكن المفاجأة كانت عندما وضعت يدها على كتفي هذه المرة، وقالت بصوتٍ منخفضٍ لم أسمعه منها من قبل: "أنت تعرف الحل.. فقط هدّئ نفسك". نظرت إليها متعجبًا، فرأيت في عينيها شيئًا لم أره من قبل: ربما تعبٌ، أو ذكرياتٌ هي نفسها عنها.

خرجت من الفصل ذلك اليوم وأنا أفكر: هل كان خوفنا منها هو ما جعلنا ننسى كل شيء؟ هل كان صراخها مجرد قناعٍ تخفي خلفه عجزها عن جعلنا نفهم؟

الآن، بعد سنوات، كلما مررت بمسألة رياضيات صعبة، أتذكر كمشتها المؤلمة، لكني أتذكر أيضًا ذلك اليوم الذي اكتشفتُ فيه أن بعض المعلمين يصرخون لأنهم ببساطة.. لا يعرفون كيف يُعلّمون بغير الصراخ.