فوق خشبةِ الحياة، نعيشُ كواليسًا لن ننساها أبدًا.

يومٌ كبقيةِ الأيام تسيطرُ عليهِ روتينيَّة الحياة اليوميَّة، و في لحظةٍ من اللحظات التي شهدَها ذلك الشَّارع تصحو العِبرة في قلبي، ليصبحَ هذا اليوم فاجعة ستظلُّ عالقة في ذاكرتي إلى الأبد.

ذلك الملاك الصغير الذي كنتُ أستبشرُ بهِ خيرًا من أعلى السطحِ كل صباح، يضاهي العصافير في أغاريدهِا و يفوقُ البلابل في أناشيدهِا،كان عائدًا من المدرسةِ يحملُ افتخارهِ على ظهرهِ، وشهادةٍ فيها انطوَت أحلام لم تكتب بعد،كان يهرولُ مُسرعًا ويبدو عليهِ نشاط الطفولة وفرحة الإنجاز وكأنها لحظة فخر لا تُضاهى في حياتهِ.

كنتُ بعيدةً عن المكان في تلك اللحظة لكن صدى فرحتهِ ملأَ أرجاء الحي.

ثانية ثانيتان .. تغتالُ الثانية الثالثة فرحتهِ، وتمزِّق الرصيف نصفين، ترشِقُ الدماء الفائرة أرضًا، و تُنعي الصَّباح عويلًا يحطِّمُ أحصنَ القِلاع، وأشحمَ السِّباع وتكتبُ على وجهي سطورًا في الدهشةِ والضياع.

ركضتُ كالمجنونةِ لأسعفَه، لكني لم أرَ جسدًا.. بل رأيتُ بقايا إنسان ابتلعهُ الموت وهضمهُ الغدر.. لم أرى شيء ومع كل هذا قاومتُ قشعريرة قلبي وحاولتُ أن أصنعَ معجزةً!

وضعتُ أذني على صدرهِ لأسمعَ آخر محاولة من الحياة لتلبية دعائي لهُ أن يكون على قيدِ الحياة.. لكنهُ غادر وهو حاملٌ شهادتين شهادة المدرسة وشهادة الموت.

حملتهُ لأمِّهِ، وأنا منهمرة في شلالِ الدموع، فماذا سأقول؟

في حضرةِ الموت يصبحُ الكلام عبَثًا.

كانَ صمتها وجمودها في تلك اللحظة بمثابةِ تكثيفٍ لشلال دموعي! استمرتْ في الحملقةِ كأنها في غيبوبةٍ مستأنفةٍ، كأنها في ثلاجةِ الزمنِ، مُجمُّدة الإحساس، وكل عقارب الكون معطَّلة في عينيها.

اقتربتْ منهُ بخفةٍ كمَنْ يتلصصُ على خبرٍ غير مهم لكنهُ مثيرًا للفضولِ،وكأنَّها تفكُّ وثاقها الغريزي بهِ، كأنَّها تبتعدُ أميالاً عن لحظة إدراك أنَّ ما بيديَّ هو ابنها!

عينيها تخفتُ ببطءٍ وكأنَّ الزمن يتوقفُ مع كلِّ رمشةٍ وأخرى، محاولات فاشلة في استيعابِ ما لا يمكن تصديقه.

عندما رجعتُ للمنزلِ،بكيتُ بكاءها الذي لم تبكيهِ، ولطمتُ على صدري اللَّطم الذي لم تُبديه، وحرَّرتُ وجعها الذي كانت عجَزًا تُخفيه، حرّرتُ كيانَ الأم التي لم تستطعْ أن تقبِّلَ ولدها، وتخبرهُ كم هي فخورةٌ بهِ، وأنَّها تتمنى له أن يكبرَ ويصبح مايريد، وأن تفرحَ بأشبارهِ وهي تزدانُ بشبابهِ ، وترى على يديهِ أحفادها، لقد كان طفلها الوحيد.. وأملها الذي تلاشى بلمحِ البصرِ.

تأملتُ هذا الضيف الذي لا نستطيعُ إنكار قدومهِ علينا جميعًا، ولا نستطيع صدَّ الباب في وجهه، وإبلاغه أننا مشغولين عن استقبالهِ،هذا الضيف يقتحمُ حياتك في ثانيةٍ، وقد يكون جالسًا الآن في مجلِسك، يراقبك، ويستمعُ لكل الأصوات الموجودة من حولك، وبدون أن تشعر أنت بذلك ينقضُّ بلحظةٍ عليكَ ليمسحَ أثرك من وجودٍ أفنيتَ عمرك فيه.