كل القرارات التي سبقتني والتي لحقتني أوصلتني إلى هنا. قرار والدي في أن يترك لجناحيّ حقهما في التحليق ولقلبي في أن يأخذني حيث هام، بدل أن يمارس علي السلطة التي مارسها جارنا على ابنته مقررا بتر الجناحين ونحر البراءة، جعلني في مكاني هنا فيما بنت جارنا في سجنها هناك. ماذا لو عُكس الأمر؟ هل نمتلك حقا من حياتنا شيئا أم أنها مجرد توالي اختيارات وقرارات لا تبالي بنا ولا لنا؟

تأخذني أفكار مستحدثة إلى عوالم من الإدراك لم أعتقد يوما باحتمالية وجودها. أنا هنا الآن واليوم لأن اختيارات أسلافي قررت ذلك، جيناتي التي تكونني حددت مصيري وطباعي وحتى مستقبلي. القليل من الذكاء الذي ورثته عن جدة ما جعلني أتفوق في الدراسة فيما مريم دفعتها أردافها المثيرة التي ورثتها عن جدتها دفعا نحو الهاوية.

مريم تكبرني بسنوات عديدة لكنها كانت زميلة الصف التي تلازمني خلسة. لا تفقه شيئا لا في الرياضيات ولا الفيزياء ولا الترجمة ولا النحو ولا الفرنسية التي تمقتها. كانت تحرص أحيانا على حصص التربية الإسلامية ظنا منها أن ذلك يمنحها حسنات تخفف قليلا من سيئاتها.

فتحت مريم عينيها في بيت يكتريه أب كريه، يضرب أمها بدون سبب، هواية. يضاجع فتيات الليل بانتظام ويبكي مستلقيا تحت قدمي زوجته لتسامحه، بانتظام أيضا. قفزت مريم فوق كل المراحل، رضيعة ثم امرأة. كانت تدرك أن جسمها هو خلاصها الذي تملك وفرصتها لملجأ أقل فظاعة من بيت أبيها. أمها تجول بين العرافات وتزرع الأحراز داخل ملابس أبيها وتحت وسائده، و مريم تراقب كل شيء وتتعلم. كانت الإعدادية العمومية مكان التقائنا، أنا بحجاب متين وعقل محشو بفلسطين والعراق والظاهر بيبرس و الخلافة، وهي بفتحة صدر مكشوف وخصر متمايل وعقل يتربص فرصة مناسبة لعريس يخرجها من مأساتها بقبلة نجاة.

الحصة الأولى كانت لأستاذة علوم الحياة والأرض، أجبرتنا على الجلوس في آخر الصف بسبب طولنا الذي لا يلائم سننا. سخرنا من وضعنا الغريب، كنا نشبه نساء بالغات اكتملت أجسادهن بالنمو وتفرعت أردافهن وتكورت وسط فتيات كأغصان الشجر اليابسة لا تزال نهودهن مترددة في البروز.

مريم تخيفني وتغريني، حياتها التي تختلف عن حياتي وأجدادها الذين لا يشبهون أجدادي وتجاربها الخطيرة التي تشعرني بمدى سذاجتي. جرأتها في إبراز مفاتنها والاعتداد بأنوثتها، مصطلحاتها الخادشة التي تخرج منسابة كشلال من فمها وانبهار الشبان بها، خبرتها الواسعة في الإغراء والإثارة. كل ذلك جعلني متشبثة بصداقتنا المحرمة. أراقبها وأتخيل منظر والدتي لو أنها علمت بهذه العلاقة المدنسة، فينتابني خوف وهلع ممزوجان بتحد لذيذ، لقد كنت أصادق النقيض المفزع لما أنا عليه.

تأتي بعد يومين من الغياب بوجه منتفخ وعين يحيط بها بحر أزرق، أتوارى معها عن الأنظار ونعتزل زملاءنا السذج. ووراء بيت مهجور تخبرني أن حبيبها انتابه شك في خيانتها له، لم يستطع كبح جماح العشق الغاضب ليفرغ رجولته في وجهها. كانت تبكي وتضحك في الآن نفسه، لقد تأكد لها أنه يحبها. سألتها إن كانت ستلجأ إلى الشرطة أو على أقل تقدير هل ستخبر والدها لينتقم لها. ضحكت بعنف اختلطت فيه قهقهاتها بأزيز صدرها.

تأخذني بحجابي العريض ووزرتي الواسعة ووجهي الغاضب دون علة، وتجول بي الدروب تعرفني على بنات وشبان يشبهونها. حريصة على عدم اقترابي منهم. تخبرهم بأنني الطالبة المتفوقة في القسم، بأني ألتهم الانجليزية كما تلتهم هي العلكة. تفتخر بي في محفل المارقين والمارقات من صفوف الدرس. تتأبط كتفي بدفء شديد كأنها تحاول إخبارهم عن إنسان من الضفة الأخرى يصادقها ويتقبلها ويحبها. كنت أحبها، وكنت أعلم أن مصيرنا لن يتجاوز أسوار الإعدادية. غرقت مريم في سكر والدها وهوس والدتها بخياناته وعشيقاته، تهرب منهما إلى حبيبها المختل يدخنان كل ما يقع بين أيديهما. تغيب وتعود لتعلمني بآخر أخبارها. تسألني عن الدروس والنقط وتفرح كطفلة لم تغتصبها الحياة كلما زففتها خبر تفوق ما.

كانت الأيام الأخيرة بيننا شاحبة باهتة، تفكيري المنصب على المعدل والرتبة والتوجيه وانشغالها الدائم بمشاكل حبيبها المدمن. لقاءاتنا الأخيرة كانت وداعا حتميا متسما بالصمت، أعطتني خلال واحد منها شريطا لسميرة سعيد وطلبت مني أن أخفيه جيدا حتى لا يقع بين يدين تحرمان الغناء فيكون مصيره سلة المهملات.

لم تختر مريم حيا كحيها يستيقظ رجاله من سكرهم ليبرحوا زوجاتهم ضربا، ولا أما كأمها لم تشعر بوجودها سوى لحظات الطلق. لم تختر أن يخافها المعلمون والمعلمات وأن يحذروا الجميع منها. لم تختر البحث عن مهرب فوقعت داخل الحفرة الأولى في طريقها. كانت تعيد حياة أمها دون أن تشعر. ولا أنا اخترت أن أفتح عيني في مكان كل نسائه يخجلن من أنوثتهن، ويخبرنني قبل البلوغ وبعده أن مريم ومثيلاتها خطر على البراءة وشر على الأنوثة.

كل ما اخترناه أنا و مريم.. كان مخاللتنا المحظورة.