يصعب على الكثير من الناس، ممن عاشوا في كنف آباء دكتاتورين متسلطين أن يستوعبوا وجود أب لا يجد غضاضة في اللعب مع ابنته التي تجاوزت سنها العشرين سنة و التي تناقشه و تحاوره و تخالفه الرأي و تجادله و تقنعه و تعاتبه و تبكي بين يديه و تضحك للمقالب التي تجعله ضحيتها و تخرج برفقه و تجالسه في المقاهي و على مرافئ البحار تحكي له عن أمالها و طموحاتها، تخبره عن كاتبها المفضل و ما تلبث أن تعدل عن رأيها لتختار كاتبا آخر، و ترسل له رسائلا تخبره بحبها و اشتياقها و تبعث له مقطعها الموسيقي المفضل و ترقص معه على أنغام أغانيه الكلاسكية القديمة و تجلس إلى جانبه بعد أن يخلد البيت كله للنوم.. يروي لها قصص السبعينات و صراعات اليسار و اﻹسلاميين و مطلع الصحوة و عن سنوات الرصاص و الانقلابات و الجنرالات و لقمة العيش، عن أول كتاب بصم حياته، و عن أول خطأ و أول خيبة، و عن أول لقاء بينه و بين أمها، و عن أول صرخة عند مولدها، عن الضمة اﻷولى و القبلة اﻷولى، عن حفل عقيقتها و كيف مر و من حضر، عن سنوات الحضانة و محاولات التخلص من الحفاضات.. عن ذلك اليوم الذي تاهت فيه و عن كمية الجنون التي كادت تفتك بعقله، عن صراعاتها مع دمياتها و صيصانها.. عن سنوات الدراسة و فرحة المراتب اﻷولى، عن فخر التفوق الدائم، عن سجدة الشكر التي تلت خبر نجاح الباكلوريا، عن الاعتزاز الذي أغرقه عن نيلها لشهادتها العليا..

سنوات و سنوات يقضيها هذا الرجل المسمى أبا يحمي و يصون و يواسي و يعرق جبينه و يشيب شعر رأسه و ينحني ظهره ليرى تلك اﻷيقونة ابنته، ذلك الكائن اللطيف الذي خرج من صلبه، سعيدة مميزة ناجحة قوية.. و كيف لا تكون قوية و هي التي استمدت قوتها منه و هو الذي علمها أن الخوف سلاح الجبناء، و الذل راية يحملها الضعفاء. و أن الكرامة وحدها التي تستحق أن نبكي ﻷجلها، هو الذي علمها أن لا سلطة لرجل عليها كيفما كان، فحتى و هو والدها و رجل حياتها لا يجدر بها أن تخافه ولا أن ترتعش فرائصها منه و لا أن يمارس عليها سلطة جلاد مع رعيته، بل السلطة لﻷخلاق التي أنبتها عليها و للرقيب الذي علمها محبته و خشيته منذ نعومة أظافرها.. فيلقي بها إلى معترك الحياة واثقا مطمئنا أن روحها أطهر من أن تقبل رذيلة و أن عقلها أرقى من أن يسقط في التفاهات و أن قلبها مشبع حبا و حنانا من أن يبحث عن مغامرات صبيانية شهوانية تافهة حتى و إن هاجرت لبلدان بعيدة ..

تطبع علاقة اﻷب بابنته حياتهما معا، فهو أشد الناس فخرا بها، أما هي، فلا شيء يعادل سلامة قلب فتاة تربت في كنف أب سهل لين طيب واثق ذو كرامة لا تقبل المساواة و صاحب فكر و وعي. فإن درست كانت مصممة على جعله فخورا بها و إن تزوجت كانت زوجة تحب و تحترم زوجها الذي ترى فيه رجلا يشبه أباها الرائع لا صاحبة عقد ذكورية تصارع ذكريات والد متعجرف، و إن كانت أما جعلت تربية أبنائها على الثقة و الصدق و العزة و الكرامة التي تلقتهما و هي طفلة همها و غايتها.

'فمالذي يعادل وجود أب كذلك؟!