إن المعرفة في التاريخ الإنساني قد تعرضت لأفظع الانتهاكات. فما كان من المغول تجاهها إلا التدمير والقذف في النهر. وبعد سقوط غرناطة، أُحرقت آلاف الكتب والمخطوطات، فحُرمت الإنسانية جمعاء من إرث علمي وثقافي هائل. وفي حرب البوسنة، ارتكبت القوات الصربية جرائم حرق لآلاف الكتب وتدمير لمراكز العلم. وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، أُحرقت آلاف الكتب كذلك. يطرح السؤال نفسه: لماذا تكون المعرفة أولى ضحايا الحروب؟ ولماذا يتم استهدافها؟
الحقيقة أن المعرفة والثقافة، بصورة عامة، تعكس الحالة الفكرية للشعوب، وتمثل درع الوعي وخزانة الذاكرة التي تحمي تراثها من الاندثار، وتحفظ لها هوية مستقلة. فالكتب تمنح الشعوب معرفة بموروثهم وحضارتهم وما كانوا عليه، فتكون بذلك عائقًا أمام محاولات المحو والتزييف بحق تراثهم. لهذا السبب، تجد أن الهدف الأول للمحتل هو محو ذاكرة الشعب الذي يقع تحت الاحتلال، حتى يتمكن من إعادة هيكلة ذاكرته التاريخية من جديد، أو يجرده من كل وسائل التواصل مع ماضيه، فيخضع بصورة كاملة للسردية التي يفرضها المنتصر في أرض المعركة.
فالمعرفة ليست رفاهية ولا تقتصر على أهداف متعلقة بالنمو والازدهار، بل أحيانًا تكون شرطًا أساسيًا للبقاء. ومحوها ليس مجرد أداة للحرب، بل هو جريمة مكتملة الأركان؛ لأنه يحرم أجيالًا لم تولد بعد من الاتصال بجذورها، ويربطهم بأصفاد واهية مع سردية لا يعرفونها ولا تناسبهم. كثيرًا ما نسمع مقولة "التاريخ يكتبه المنتصر"، وإن كنت لا أرى الأمر كذلك بالضبط؛ لأن التاريخ والمعرفة بشكل عام ليست حكرًا على جماعة دون الأخرى. وما دمت تملك قلمًا، فأنت ما زلت متصلًا بعملية التأريخ وبالقدرة على التأثير. كل ما في الأمر أنه يحتاج إلى شجاعة ومقاومة وقراءة ومناهضة لمحاولات التزييف. لذلك نقول دائمًا إن للمثقف والعالم دورًا إصلاحيًا قويًا، وميدانًا لا يقل أهمية عن الميادين الأخرى.
التعليقات