لطالما تساءلت: هل يمكن لبشر أن يخرج بتفكيره عن طبيعة مجتمعه والنمط الفكري السائد؟ هل يقدر الإنسان أن يحلًق بفكره فيعرف ما كان مقدر له أن يُعرف بعد مئات السنين مثلاً؟ بعد طويل تفكير أجيب بلا وسنأخذ مثالاً على ذلك المعلم الأول أرسطو.

​في كتابه " الميتافيزيقا" يقول أرسطو أنً الإله - المحرك الأول الثابت للكون – يحرك الكون لا بالمماسة بل بكونه المعشوق الكامل الأبدي؛ فيتحرك الكون محبةً و شوقاً للمحبوب. يقول أرسطو أن الله لا يحرك الكون بالمماسة لأن واجب الوجود ( الله) صورة محضة وعقل محض وليس فيه من المادة شيئاً. كل هذا لا يعارض فيه معارض وسلم به الفلاسفة المسلمون وفيه شواهد من المسيحية. غير أن أرسطو يقول أن الإله لا يأبه بالبشر ولا بالعالم مطلقاً ولا يتعلق موضوع فكره بهما. فهو يرى أن ذلك يحط من قيمة فعله وهو التعقل المحض وينقص من كماله. فالعالم، كما يقول أرسطو، دنيء بالقياس إلى الإله ولذا فهم الإله الأول والأخير أن يتعقل ذاته وكمالاته؛ لأنه لو تعلق موضوع تعقله بما هو أقل من ذاته الكاملة لصار الإله دنيء مثله! فيا ترى لماذا فكًر أرسطو في الإله على هذا النحو؟! الحقيقة أني لم أجد تفسيراً! فهل عندكم تفسير؟! ففلسفة الفيلسوف في الإلهيات تتطابق الفطرة السليمة و الشرع ولكن لماذا أخفق عندما تصور العلاقة بين الإله وبين العالم؟!

لم أجد تفسيراً إلا أن أرسطو أسقط العلاقة بينه وبين بيئته على العلاقة بين الإله وبين العالم. فتلك الفكرة خلعها أرسطو على الإله لأنه هو ذاته يفعل ذلك. فقد خلع ما يعتقده من صفات مثلى عليا على إلهه نظراً لتأثره بنظرة عصره وقومه للعمل اليدوي. فنبلاء بيئته الاجتماعية كانوا ينظرون إلى العمل اليدوي نظرة احتقار ودناءة وكانوا ينظرون إلى الانعزال في برج عاجي والتأمل الذهني المجرد وعدم الانشغال بالأخرين نظرة الإجلال والقداسة والكمال. فراح أرسطو ينسب للإله من صفاته هو نفسه ناسياً أنه أسير عادات اجتماعية قد طبعت عقله على التفكير على هذا النحو وأن هذه الصورة لا تليق بالإله. فإله أرسطو إله نرجسي يعشقه الكون ويدور محبة وشوقا له وهو لا يباليه! وقديما قال الفيلسوف اليوناني كسنوفون أن البعوض لو راح يتصور إلهه لتصوره على صورة بعوضة ولكن ضخمة! وهنا يثار سؤال: إذن فكيف عرفنا الله: بالوحي أم بالعقل؟ قد علمتم الإجابة.

فهل تعتقدون أن الإنسان بتصوره وتعقله المجرد يصل إلى الحقيقة سواء دينية أو طبيعية فيزياقية؟ وكيف بإمكاننا نفكر خارج الصندوق ولا نخضع في ذلك لبيئتنا الاجتماعية؟