استرخي، هذا المقال طويل نوعا ما ويتطلب بعض التركيز. ضعه في المفضلة واقرأهُ لاحقًا أو اجلب قهوة او كوب شاي ودعني احدثك قليلاً.

لا تركز في الأخطاء الاملائية، ان وجدت واحدًا أعطيتك كعكة لكل خطأ أسددها لك لما احصل على الشاورما التي وعدوني بها هنا.

هذا المقال جديّ لكنه برعاية هذا الميم meme:

_______________________

تأملتُ ما يكفيني من الوقت في الدعوة التي تتمثل في عدم الانجاب والتي تؤدي إلى انقراض طوعي للبشرية، والتي يرد عليها المعارضون عادة بحجج شخصية (تصب ضد الشخصيات التي تدعو لهذه الفكرة) أو دينية (تعتمد على نصوص ليس بالضرورة أن يكون صاحب الفكرة مؤمنا بها أصلا) بالتالي نستعرض هنا ثلاثة حجج عقلية محكمة ضد هذه الفكرة:

الحجة 1: قضايا فكرة (اللا تناسل وعدم جدوى الانجاب والانقراض الطوعي للبشرية) ليست حقائق:

ولم يتم مناقشتها على طاولة العقلانية بشكل كافٍ حتى الآن. يقول مؤيدو فكرة الانقراض الطوعي أن الحياة غير مجدية لأنه حتى لو توفرت كل الظروف المواتية فإن المعاناة ستأتي والمعاناة والألم شر. وهم يقصدون فضلا عن الفقر والآلام والمحن والتعب والكد والجهد الذي يستتبع حياة أي بشري على وجه الأرض فإنه يقصدون لو تخلصنا من كل ذلك فإنه لا يمكن أن نتخلص من فكرة عذاب التفكير في وجودنا وماهيته وغايته وهو الشر الأعظم في نظرهم. لنناقش هذه الفكرة (الألم شر) هي قضية ليست بديهية وقابلة للنقاش وليست حقيقة علمية (كل الكائنات تهرب من الألم وتود الراحة فنعرف أن اللذة هي السعادة وأن الألم هو الشقاء) لأنه:

  • أولاً: الألم من القضايا الفلسفية المعقدة وهو من الكيفات أي qualia:

يعني لا يوجد مقياس له ولا طريقة لمعرفة ماهيته بالضبط فالماء الساخن يحرقك ويؤلمك لكنه قد لا يؤلم آخرين والكهرباء تصعقك لكنها لا تصعق بعض الآخرين وألم الانجاب قد يخيف ملايين النساء لكن هناك نساء يقمن به عن طواعية لا عن مجتمع ولا عن دين. كما أن هناك المازوخيين من يلتذون بالألم وقد يقول دعاة فكرة الانقراض البشري هؤلاء غير أسوياء ويجب أن يعالجوا فنقول لهم عرفوا الانسان السوي ما هو؟، وحتى نجد علاجا ناجعا مئة بالمئة لهم فإننا لا يمكن أن نفقدهم حقهم في العيش في عالم مؤلم يشكل لهم لذةَ حتى وان كانت مرضية. وضرب المثل بالمازوخيين هو دليل عقلي أن تعريف الألم بانه شر ليست صحيحا وليس حقيقة علمية او بديهية حدسية في كل منا. والموضوع طويل ومعقد مغزى كل هذه الحجج الجزئية في نقطة الألم هو أن الألم نسبي. وأصدقُ ما فيه هو الألم الذاتي يعني يمكن لدعاة الانقراض الطوعي للبشرية أن يخبرونا فقط عن آلامهم هم ولا حق لهم في ان يمحوا آلام اخرين يتخيلونها ولو قالوا لا نتخيلها بل هي حقيقة فهم لا يعرفون مقدارها. وهل الشخصُ يحتملها أم لا وهل هو يود اختفائها ؟؟ لا يمكننا الحكم فان قالوا ائتونا بدليل هناك أدلة منها الطبيب الجراح الذي كتب سيرة ذاتية (عندما يصبح النَفَسُ هواءً) عندما أنجب ابنته في حين علم أنه مصاب بالسرطان وهو كتاب من أروع ما يكون وكذلك كتيب (امتنان) الذي كتبه الطبيب الرائع: أولفر ساكس بعد معرفته أنه مصاب بالسرطان... الخ.

  • ثانيًا: اعتمادها على نظريات علمية مؤقتة: يعامل دعاة الانجاب واللاتناسل قضاياهم على انها حقائق كونية غير قابلة للجدل .. مثلا 'الحياة بلا معنى". هي قضية شبه مقدسة لديهم ان لم تكن كذلك ماذا لو رأى احد اخر غير ذلك واكتشف معنى يقولون لك هو موهوم هو زائف. حسنا هذا رأيكم. وربما هو يريد ان يعيش الوهم ..اين المشكلة قضايا"الحياة بلا معنى، الحياة مهزلة الحياة بلا هدف "هي قضايا فلسفية قابلة للنقاش وليست حقائق لكن خطأ دعاة اللاتناسل هو معاملتهم لهذه القضايا على أنها حقائق بديهية وصادقة تماما وفي نظرهم (يدعمها العلم الحديث والحس السليم والرؤية الثاقبة للاشياء!!).. اقول لهم حقا؟؟ ومن لم يؤمن بالفكرة والقضية فهو مزيف موهوم عائش في وهم لا فكاك منه مسكين من المساكين بما فيهم نحن الذين ندعو لوضع حد لانهاء هذه المهزلة والتمسكن. الرد عليهم في هذه الجزئية بسيط لأن هناك الكاتب فيكتور فرانكل وقد وجد معنى في خضم أقسى الظروف نجم عنه كتاب شديد الروعة بعنوان (الانسان يبحث عن معنى) ومنهج (العلاج بايجاد معنى) وهو منهج ان لم يكن فلسفيا صادقا تماما فإنه منهج معتبر..لو اتى احد دعاة اللاجدوى وقال (انت فيكتور يا بني مش حاسس بالألم انت مش فاهم الحياة بلا معنى .. اصح يا بني لازم ننقرض!!) فأنت أيها العدمي داعي الانقراض - مع أن الرجل خَبِر الألم فعلا ويفهم ما هو - امام حلين من الحلول : احدهما هو مصادرة حق من يقول بان للحياة معنى وقسرهم على الانقراض ( هذا يبين بطلان قضيتكم من الأساس)، واما ان تاتوا بحجة تقول ربما فكتور وجد معنى لحياته لكن ليس من حقه انجاب افراد ربما لن يجدوا معنى لحياتهم ويموتوا متألمين الجواب هو أنه سينجب اولاده في عالم بلا اوشتفيتز ولا محرقة.. سيهتفون ألم الضياع الوجودي في الحياة اعظم من الم اوشفيتز والمحارق!! ارحموا اطفالكم ولا تاتوا بهم!! ورغم اننا سنغض الطرف عن تهلهل هذه الحجة الا اننا سنجاريهم قائلين: وكيف قستم ألمهم الوجودي وهل هو قابل للتحمل ام لا ربما هم متوافقون مع ان يتالموا قليلا الما وجوديا في مقابل لحظتين من السعادة.. يذكرني هذا بالخليفة الاندلسي نسيتُ اسمه بالضبط الذي وُجدت في خزانته بعد موته ورقة تقول: هذا ما صفا لي من الأيام دون كدر في حياة الدنيا التي عشتها فعدوها فوجدوها بضع وعشرين يومًا.. ربما لو سألنا الخليفة الاندلسي هل تستحق الحياةُ الطويلة ان نعيشها مقابل خمسة او ستة ايام سعيدة؟؟ الجواب يكمن في طبيعة الالم وطبيعة السعادة.. الالم ذاتي وعادة ينحصر في نفسه او شيء واحد ام السعادة والخير فمن طبيعتهما الانتشار وتحقيق اكبر عدد ممكن من الخير.. ولذلك يمكن لسعادة يوم فعلا ان تغطي الام ستين عامًا.. ونعود هنا لمن اراد المناقشة الى دعوته للبحث عن الكيفات أو القواليا لاننا قلنا ان الالم قضية فلسفية كيفيّة صعبة ولا تتضمن بديهيات يتفق عليها الجميع. بالتالي عقليا ومنطقيا لا يمكن بناء منهج سلوكي حياتي عليها يقول (الحياة معاناة والم، لا يمكن التخلص من المعاناة والالم، الخير والسعادة هو انعدام الالم، انعدام الحياة خير.) هو منهج غير صحيح عقليًا دون اي مرجع ديني او لا عقلاني.

الحجة 2: استحالة تطبيقها عمليا ( إلا باستعمال القسر والعنف):

وتتمثل الحجة هنا كملخص "اذن لماذا ندعو الى فكرة يستحيل تطبيقها عمليًا؟." وهذه التجربة الفكرية توضح تماما هذه الاستحالة: لنفرض أن مجلسا من دعاة هذه الفكرة حكم العالم وسلم لهم العالم كله بأسره كما هو الآن وقَبِلَ الجميع فرضيا أن لا ينجبوا أبدا.. وبقينا على ذلك الحال لخمسين سنة لا اطفال مطلقا. لكن ظهرت نساء ورجال يريدون الانجاب. ما الذي سيفعل دعاة الفكرة لهم. سيقول دعاة اللاتناسل انه لو افهمت بشريا جيدا ما معنى ان تنجب لن يفعل ذلك ابدا لانه خير وصلاح له وانعدام شقاء. لكن رغم ذلك سيوجد دوما ناس يريدون الانجاب. ماذا نفعل لهم؟ نمنعهم؟؟ نقسرهم على عدم الانجاب لانهم لا يفهمون حكمة الانقراض الطوعي؟.. يرد المعترضون ان الناس لو فهمت حكمتنا لامنت بها جميعا ولم ينجبوا فردا جديدا واحدا. ولو فرضنا انه في هذا العالم توجد برامج ودعاة ونظام تعليمي متكامل يؤسس لفكرة اللاتناسل ستجد دوما من يريد ان ينجب. وهنا يقابل حكام هذا العالم في هذه التجربة الفكرية خياران لا محيص عنهما وهما:

  • منع الانجاب قسريا بحجة أنه تدخل في حياة اناس لم نخيرهم في ذلك وهم الاطفال الذين سيأتون. وهكذا يتحول العالم الى ديستوبيا اخرى كريهة ووحشية.

  • السماح بذلك لمن اراد. (وهذا يصب في صالح حجتنا في أنها مستحيلة التطبيق فلا داعي السعي وراء فكرة مستحيلة عقليا بينما لدينا أفكار كثيرة ممكنة عقليا وماديا).

وقد يقول قائل يمكن ان يقبل الفكرة الناس كلهم دون اي مشاكل ودون اي استثناءات نرد عليهم بالقول أنه عقليا وتاريخيا لم يحدث ذلك قط ولم تحقق اي فكرة اي دين اي مذهب واي ايدولوجية نسبة توافق بشري عليها 100 بالمئة بالتالي لو طبقنا هذه الفكرة على العالم كله سيكون لدينا استثناءت بنسبة معينة حسب الاستقراء العقلي والتاريخي وسيواجه دعاة الانقراض البشري الطوعي خياران تكلمنا عنهما وهما طريقان مسدودين في وجه هذه الفكرة أو النظرية.

الحجة 3: توافق نتائج فكرة (الانقراض الطوعي للبشرية) مع منهج الحياة والكون ككل على مدى بعيد:

العلم للآن لم يتوصل الى منع الموت (وحتى اكثر النظريات تفائلا تواجهها صعوبة ان الخلايا تحتوي في جيناتها على جين تفعيل تدمير ذاتي لم يكتشف لحد الان وهو السبب الذي يجعل الخلية مع ان كل نظامها يعمل بشكل جيد تموت.) بالتالي الموت البشري حقيقة. والعلم أيضا يقول ان موت الكون امر حتمي. وحتى في نظريات مثل الانكماش وخلق اكوان اخرى في عملية دورية تستلزم المرور بنقطة يتدمر عندها كل شيء. اذن لدعاة اللاتناسل لماذا العجلة؟؟. يقول دعاة الانقراض الطوعي لنكف عن الألم وايلام الحيوانات والناس والكوكب والكون والجواب يكون في النقطة الثانية في نقطة الالم لأننا اجبنا عليها بتفصيل.

كلمة أخيرة حول هذه الفكرة أي فكرة لا جدوى الانجاب:

  • هي خيار شخصي نحترمه لكن لا يجب ان نعمم ولا يجب ان ندعو له

  • سبب عدم الدعوى له هو ان ضده الحجج التي سردناها اعلاه.

  • هو رأي فلسفيّ لا يجب ان يفرض على البقية ومن المستحسن ان نطلع عليه ولا نمنع أحدا من اعتناقه أو عرض أفكاره المؤيدة أو المخالفة له.