لا شك انك سمعت بنظرية كل شيئ أو حلم اينشتاين في الفيزياء.
وهو ببساطة محاولة وصف جميع ظواهر الفيزياء من حولك، من رافعات البناء الى كيفية عمل جهازك الذي تقرأ منه الآن إلى حركة الكواكب والمجرات، وأيضا حركات الذرات، وصف جميع تلك الظواهر من خلال مبدأ واحد بسيط و واضح المعالم. وبناءا على ذلك سنصف كل ظواهر الفيزياء من خلال معادلة واحدة بسيطة تكتب على بضع سنتمترات.
بدأت عملية التوحيد الكبرى هذه مع الفيزيائي الكبير اسحاق نيوتن. كان هذا الرجل، المنعزل إلى حد الجنون، يبحث عن مبدأ يتمكن من خلاله تفسير كل الظواهر الفيزيائية من حولنا. ليست فقط تلك التي على الأرض، بل تفسير حركة الكواكب والنجوم والمجرات وحركة سيارتك من خلال معادلة واحدة. ربما نعرف جميعنا تلك القصة التي تروي أن نيوتن كان جالسا تحت شجرة فسقطت عليه تفاحة، فبدأ يتسائل؛ لماذا لا يسقط القمر هو الآخر نحو الأرض بنفس الطريقة؟ ما الذي يمنعه؟ في الواقع لا يمنعه شيئ، هو يسقط بنفس طريقة التفاحة، لكن كتلته العملاقة جعلت نيوتن يفهم الموضوع بأكمله؟ عندما سقطت التفاحه، في الواقع مثلما كانت الأرض تشد التفاحه كانت التفاحة تشد الأرض إلى أعلى! لكن فرق الكتله يلغي تأثير جاذبية التفاحة نهائيا. وبذلك يظهر كأن الأرض تشد التفاحة فقط. وبذلك دمج قانونه الثاني الشهير، الذي لا غنى للفيزيائيين والمهندسين عنه (F=ma) أي القوة التي تدفع بها سيارتك اذا توقفت تساوي التسارع مضروب ب كتلة السيارة. دمج هذا القانون مع قانون الجاذبية الشهير، وبذلك استطاع وصف حركة التفاحة والقمر وأي كوكب تريد. تصف ما على الأرض وما خارج الأرض. هذه الخطوة بالنسبة لزمن نيوتن تعتبر خطوة خارقة للعقل البشري. من كان يتكلم عن حركة الكواكب في زمن نيوتن. لقد وحد الرجل جميع الحركات من الأرض إلى الكواكب والنجوم، وكانت تلك الخطوة الأولى في التوحيد عبر التاريخ.
الخطوة الثانية تأتي من الرجل الذي يلي نيوتن في العظمة والتأثير، جيمس كلارك ماكسويل. كانت الكهرباء والمغناطيس ظواهر محيرة للعقل البشري. حتى القرن التاسع عشر، لم يتخيل أحد أبدا أن الكهرباء والمغناطيس هما وجهان لعملة واحدة. وهنا يظهر دور تلك العقلية النيوتنيه من جديد، التي ترى بأن الظواهر المختلفه تلك لابد من أنها تنبع من مبدئ واحد بسيط. آمن ماكسويل بذلك، وباستخدام عبقريته الفذة في الرياضيات، استطاع توحيد المجالين الكهربائي والمغناطيسي في أربع معادلات شهيرة جدا، تسمى (معادلات ماكسويل). أيضا لا غنى للفيزيائيين ومهندسي الكهرباء عن تلك المعادلات.
الخطوة الثالة تأتي من الرجل الذي يحمل نفس بصمة عقل الاثنان السابقين، آلبرت آينشتين. لقد عدل آينشتين كل من كاتبه نيوتن من خلال النظريتين النسبيتين الخاصه والعامه. الخاصه هي تعديل معادلات نيوتن بما فيها (F=ma) في حال إذا تحركت الأجسام بسرعة عالية تقترب من سرعة الضوء. ومن ثم عدل نظرية نيوتن في الجاذبية من خلال فكرته حول نسيج الكون. بعدها قضى آينشتين سنوات عمره الأخيرة كلها مثل سابقيه في عزلة شديدة، محاولا توحيد مجال ماكسويل مع مجال الجاذبية. أي وصف الظواهر الكهرومغناطيسية مع الجاذبية من خلال معادلة واحدة! وظل يحاول ويحاول حتى على سرير المستشفى في أيامه الأخيرة، حتى مات عام 1955. لكنه لم يفلح في توحيد الجاذبية مع الكهرومغناطيسيه. لماذا؟
بعد آينشتين تطورت الأمور كثيرا، وسارت بشكل مختلف. وهذه الأمور كشفت لماذا عجز آينشتين عن توحيد تلك القوى. أولا، لم يؤمن آينشتين ب ميكانيكا الكم، وكان يعمل على فكرة التوحيد بتفكير كلاسيكي. ثانيا: مع تطور الفيزياء النوويه باستخدام ميكانيكا الكم تم اكتشاف قوتين اضافيتان ربما لم يسمع بهما آينشتين، وهما القوتين النوويتين القوية والضعيفة. لقد أهمل آينشتين أبحاث ميكانيكا الكم تماما. ومع ذلك لا نلومه في مسألة التوحيد، لأن الجاذبية مازالت غير موحدة مع أي قوة أخرى حتى الآن!
في الستينات الى الثمانينات يأتي عصر فيزياء الجسيمات. وتأتي الخطوة الكبيرة التي قام بها ستيفن واينبيرغ، شيلدون غلاشو، و محمد عبدالسلام. احيث ستطاع هؤلاء الثلاثة بشكل مستقل توحيد القوتين الكهرومغناطيسيه والنووية الضعيفة بما يسمى اليوم (القوة الكهروضغيفة). ونالوا جائزة نوبل عليها في عام 1979.
تم اكتشاف أن القوتين، الكهرومغناطيسيه والنووية الضعيفة، تتوحدان فعلا في مختبر سيرن عام 1983. ولقد تنفست لجنة جائزة نوبل الصعداء بعد اكتشاف ذلك التوحيد تجريبيا! والا لكانت في وضع محرج للغاية في منح الجائزة لفكرة نظرية فقط. كان توحيدهم قائم على نهج ميكانيكا الكم، وليس نهج آينشتين الكلاسيكي. وتماشيا مع هذه الخطوة تم العمل على توحيد القوة الثالثة، النووية القوية. وقد تم توحيدها نظريا، وبالتالي تصبح القوى الثلاثة (الكهرومغناطيسية، النوويه الضعيفة، النوويه القوية) موحدة في قوة واحدة. هذا التوحيد يسمى (نظرية التوحيد العظمى) GUF. وهذا التوحيد كما أسلفت قائم على طريقة ميكانيكا الكم.
في الحقيقة تذوب تلك القوى في درجات الحرارة المرتفعه جدا جدا، فعند درجة حرارة 1 ومتبوع بـ 15 صفر "كلفن" أو أعلى قليلا، تنصهر القوتين الكهرومغناطيسية مع الضعيفة (تم التأكد بالتجربة). أما إذا أردت أن تصهر القوى القوية معهم، فعليك أن ترفع الحرارة إلى 1 ومتبوع ب 18 صفر "كلفن" (انظر الشكل أدناه). وهذه الحرارة أعلى ب 100 مليار مرة من تقنياتنا المتوفرة اليوم في مصادم الهادرونات العملاق LHC. وحتى نكون منصفين، لا نعلم اذا كان ما سيحدث عند تلك الحرارة مطابقا للتنبؤ النظري أم لا في (نظرية التوحيد العظمى). لكن ما يريح بال الفيزيائيين هو أن أن تلك القوة تعمل وفق قوانين ميكانيكا الكم، وبالتالي تسير في نفس خط التوحيد. أما التي تقلق الفيزيائيين حقا فهي "الجاذبية"!
من سخرية القدر أن تظل قوة الجاذبية، التي تشدك الآن، من أكثر القوى غموضا وحيرة للفيزيائيين اليوم! انها أقدم قوة تم اكتشافها (منذ نيوتن) ولا تزال خارج التوحيد! بل بعيدة جدا عن التوحيد، وربما ستظل كذلك!!. إذا أردت أن توحد قوة الجاذبية مع القوى الأخرى، فعليك أن ترفع درجة الحرارة الى 1 ومتبوع بأكثر من 23 صفر كلفن!! تسمى هذه طاقة بلانك (الطاقة = الحرارة). ولا نعلم اطلاقا ماذا سيحدث عند هذه الحرارة؟! ولا نعلم كيف يتم التوحيد أصلا في الفيزياء النظرية، أي أننا لا نعلم شكل المعادلات كيف ستكون. أما اذا فكرت ببناء مصادم مثل الموجود في سيرن الذي يبلغ قطره 27 كيلومتر لتختبر ماذا سيحدث عند تلك الحرارة، فعليك أن تبني مصادما قطره يساوي 1000 سنه ضوئية!! انه حلم بعيد المنال جدا.
إن توحيد الجاذبية مع القوى الأخرى يطلق عليه (نظرية كل شيئ) TOE, والى الآن أشهر نظرية حاولت توحيد الجاذبية مع القوى الأخرى هي "نظرية الأوتار". لكنها مجرد محاولة وفيها مميزات وعيوب كثيرة جدا حالت دون ترقيتها الى درجة نظرية.
لا نعلم اذا كان هناك حقا معادلة واحدة تفسر كل ظواهر الفيزياء أم لا؟! لكن هناك إيمان في قلوب بعض الفيزيائيين أن هذا التوحيد موجود تماشيا على درب نيوتن وماكسويل وآينشتين، وهناك من الفيزيائيين من يرى في ذلك مجرد حلم ونظرة جمالية مفرطة تجاه الكون، ولايوجد مبدأ واحد يصف كل الفيزياء!
الفيزيائي الكبير باولي (Wolfgang Ernst Pauli ) سبق ان اجاب اينشتاين حول نظرية كل شيئ:
ما فرقه الله لا يجمعه بشر.
منقول بتصرف
التعليقات