شاب قبل المشيب
كنت اتصفح الانترنت ورأيت صورة تعبيرية مؤلمة جداً، بها من الألم ما لا ينتهي يبدأ من لحظة وقوع عينك عليها، إنه حلزون يقف في المنتصف على شفرة حادة ودمه يسيل عليها، كيف وصل إلى هنا؟ وماذا عن بقية الطريق؟ وكيف سيكون حاله عندماً يصل إلى النهاية؟ أوجاع لا تتوقف، وكان التعبير المثالي على الصورة "حينما يكون التقدم مؤلم والرجوع مؤلم والوقوف اشد ألماً .. ماذا يفعل المتألم" وتطابق هذا التعبير على حالي وحال الكثير، أنا أحيا هنا بأوجاع تلازمني دائماً وأمضي في طريقي ببطء شديد، ولا اقدر على الرجوع، ومن اللامعقول أن أتوقف، ويشغلني دائماً ماذا عندما انتهي من الطريق كيف سيكون حالي؟ إنه حال كل مغترب.
يعيش المغترب مجبور على عمله، لا يملك أي خيار في أمره، أوامر ونواهي، افعل لا تفعل، اذهب لا تذهب، وأينما يتم وضعه يكون، أضف إلى هذا الجميع يكذبونه وينكرون عليه اوجاعه، يظنون ظن السوء فيه، يتحدثون خلفه بألسنتهم وأمامه بأعينهم، سؤال يطرحونه دائماً طالما أنك تتألم هناك لماذا لا تعود؟ كلمات غير مبالية بأمره لا يدركون كم عانى حتى وصل إلى هنا، وكم أنفق من المال على أمل الحصول على عمل يوفر له أقل حقوقه الآدمية من مسكن وزوجة ومصدر رزق يعيش منه، هناك من باع من ممتلكاته وهناك من ظل سنوات حتى استطاع دفع ثمن عقد العمل، كيف له بعد كل هذه التضحيات أن يعود، إنه طريق ما إن تضع قدمك عليه لابد وأن تكمله إلى آخره، ولكن ما يحدث في الطريق مؤلم يصل إلى حد الإهانة، يكفي هذا المسكين لقب مغترب وأجنبي، وتكون له نظرة مختلفة عن باقي أهل البلدة، نظرة الشخص المنبوذ من الجميع وكأن به عله أو مرض، في الطريق يفقد الأمان ويفقد الذكرى، ويفقد أجمل فترات حياته، يعيش في توتر دائم، انه مقيد هناك عند أحدهم، يتحكم في أموره كلها، لا يخرج ولا يذهب إلا بإذنه، يعمل عنده وعلى الطريقة التي يريدها، يُذكرني دائماً بزمن الجاهلية وسوق النخاسة، هذا إلا ما رحم ربي، وفي نهاية الطريق يكون قد فقد نفسه وحلمه، وأصبح لا يبالي ولا يشعر بمن حوله، اصبح وكأنه لوح ثلج يقضي ايام حتى يسيل أو يتبخر.
وحيداً أعاني في غربتي وكثيرا هنا رحلوا ولم يُذكروا، ظلوا أيام في مسكنهم بأجساد لم يكن بها نبض، ولولا رائحة خرجت تناجي العابرين أن أكرموا هذا الجسد، لظل في فراشه إلى أن تحلل العظم.
هكذا حالي في كل ليلة على فراشي أخاف أن أصحوا في قبري، أفيق على ملكين يقعداني بدون وداع أحبتي، شيطان يوسوس في نفسي ضيعت سنوات عمرك من أجل حياة لن تحيها، هنا نأكل ونشرب ونشتري حاجاتنا وندفع من أعمارنا، ما بين ايام وشهور وسنين كل على حسب قيمته.
غريب أنا معلق بين إقامتي واجازتي، زاد الكفيل طلباته ورسوم انقسم منها ظهري، أحيا بإقامة تحت إشارته متحكماً في شأني، يذكرني دوماً لا ذهاب ولا خروج إلا بأمري، وكأني في زمن الجاهلية أحيا بذنبي، يوماً سيأتي في البطحاء ويضع الصخر على صدري، وابحث عن أبوبكر كي يدفع عني، ويظن الجميع بأني مترف واخفي عليهم ثروتي، يا قوم بالله إني أعاني ديون افسدت حسبتي، ولا أملك مالاً فأنتم احبابي وكل عزوتي، تحسدوني على حياتي في غربتي إنما هي مأتمي، أعاني هنا آلام وما من احد يداوني، ويخفف عني أوجاع ضاق منها صدري، أحيا
هنا دون نبض وقلب تركته مع زوجتي، والفراق ينزف الأيام من عمري، غائب أنا عن موطني أعيش الحزن بمفردي، وأنا المنسي بدون ذكر في الفرح والحزن، بعيداً أنا لم أصل بعد إلى وجهتي، وانا الضعيف في غربتي اسمع أنين زوجتي، مللت كلمات المواساة وباتت تؤرقني، إحساس المكسور والمجبور على أمري يقتلني، ضحيت من قبل بزينتها، ظناً بأني سوف أعوضها من مكسبي، حلماً جميل يا ليتنا لم نحلم به، إنه الواقع الذي لابد به أن نكتوي، ارحل فلا سبيل للعيش الكريم إلا الترحال.
رحلت تاركاً ضحكتي وبهجتي، وتركت أيامي وأحلامي، وتركت أهلي وأحبابي، وأتيت لأنصدم ببؤس انطفأت منه نفسي، أتذكر قديماً كان المرح من سماتي، واليوم بات من الماضي أحكي عنه، أتذكر أني المغامر الذي ذهب من السودان إلى الأردن، بدون قيد أو أوجاع ونفس مشعة بالأمل، واليوم أخفي أوجاعي وأكتمها، خوفاً على روح تعلقت بها نفسي، أخبرك حديث بالله عليك إجابتي.. حدثني عن أحباب تناسوا أمري.. حدثني عن كرامة ضاعت في جواز سفري .. حدثني عن شعر شاب قبل المشيب .. حدثني عن ألم دائم في صدري لا ينتهي.. حدثني عن كابوس لا يفارقني في نومي .. حدثني عن عين ذرفت الدمع في صمت .. حدثني عن رنة هاتف ترعبني .. حدثني عن ضربات قلب كمطرقة في صدري.. حدثني عن راتب ينقضي قبل أن يأتي .. حدثني ما الأفضل السيء أم الأسوأ .. حدثني عن زهرتي التي تكبر ولم احتضنها .. حدثني عن زوج لم يتزوج .. حدثني عن والد مع إيقاف التنفيذ... أيكفيك هذا يا أخي.. فلدي الكثير من الأوجاع لأخرجها.. ولكني يئست الشرح لمن حولي .. سأسعى جاهداً أن أنهي الطريق بكل سرعة، وأن أكون منتبهاً حتى لا يجرفني تيار الغربة وأكون نسياً منسيا، وأخيرا لا عون ولا ثبات إلا بأمر الله .. فهو المعين في غربتي .. وهو الأنيس في وحدتي .. والحمد لله على نعمته ومنه وكرمه.
التعليقات