الذات والنفس – أن اكتشاف الذات لا يتم إلا بعد تفكيك هندسة النفس
لطالما خُدعنا بفكرة أن الذات هي ما نعرفه عن أنفسنا، أسماؤنا، صفاتنا، اختياراتنا، تلك الصورة التي نحملها في أذهاننا حين نقول “أنا”. لكن شيئًا ما لا يستقيم. لماذا نتصرف أحيانًا بطريقة لا نفهمها؟ لماذا نقول ما لا نقصد؟ لماذا نندم بعد قرارات كنا نظن أننا مقتنعون بها؟ الإجابة تكمن في أن تلك “الذات” التي نظنها حقيقية، ليست إلا واجهة سطحية لما هو أعمق… لما هو متخفٍ… لما يُسمى النفس.
النفس ليست ذلك الشيء الذي تتحدث عنه في السيرة الذاتية، ولا هي ما تعبّر عنه في خطاباتك أو منشوراتك. النفس تسكن خلف ذلك كله، في المكان الذي لا تصل إليه الكلمات. تتحرك بصمت، تدفعك نحو رغبات لا تفهمها، وتعيدك إلى سلوكيات تظن أنك تجاوزتها. إنها خريطة خفية، متاهة هندسية من التكرارات والانكسارات والانجذابات، تُملي على الذات ما تظنه اختيارات. وهنا تنشأ المفارقة: نحن لا نختار كما نعتقد، بل نُقاد من داخلنا دون أن نرى السائق.
في علم هندسة الذات الرياضية، نبدأ من هذا الفهم: أن الذات لا يمكن فهمها مباشرة، لأنها ليست أصل النظام، بل مخرجاته. الأصل هو النفس، البنية العميقة التي تنتج الذات، كما تُنتج الواجهة من الشيفرة. لذلك، إن أردت أن تفهم ذاتك، فلا تسألها، بل افكك النفس التي صنعتها. راقب تكراراتك، راقب عاداتك العاطفية، راقب الأشياء التي تجذبك دون مبرر، تلك الدوافع التي لا تنطفئ مهما وعيت بخطئها. كل هذا ليس فوضى، بل نمط داخلي دقيق، يمكن تحليله، وقراءته، وربما تغييره.
تفكيك هندسة النفس لا يعني محاربتها، بل رؤيتها. لأن النفس تكتب نفسها في الظل، لكن قوانينها تنعكس في الضوء. حين ترى هذه القوانين، حين تفهم لماذا تتصرف كما تتصرف، حين تُدرك أن نيتك لا تسير في الفراغ بل تخضع لإيقاع داخلي، عندها فقط تبدأ الذات في التكوُّن. ليس كصورة اجتماعية، بل كوعي حقيقي بما أنت عليه.
الذات ليست ما تبدأ به، بل ما تصل إليه بعد أن تحفر في النفس حتى ترى خريطتها. هي الثمرة التي تظهر عندما تُفكك الجذور وتُفهم التربة وتُعاد كتابة المعادلة. ولذلك نقول، ليس مجازًا بل بدقة علمية:
اكتشاف الذات لا يتم إلا بعد تفكيك هندسة النفس.
وهذه ليست مهمة سهلة، لكنها أيضًا ليست مستحيلة. إنها ببساطة، الخطوة الأولى في علم هندسة الذات الرياضية.
التعليقات