"الرجل يُحضر الأطفال مسّببا لهم وله التقدم في السن والشيخوخة والموت ،فلو فكّر لوهلة وأدرك حجم المُعاناة التّي سيزيدها بتصرفه ،لكان قد امتنع عن الإنجاب ،وبذلك يوقف دورة الشيخوخة والموت"

بوذا

في الخمسين سنة الأخيرة ،انتشرت فلسفة اللاإنجابية ،والتي تقوم على رفض فكرة الإنجاب بقرار شخصي كعمل لا أخلاقي ،بعيدًا عن أي عوارض إجبارية كالعقم مثلًا ،أو الرهبنة والتعفف ،القائمة على الامتناع عن الجنس.

ولكنها ليست فكرة جديدة ،إذ يمكن رؤية ذلك ضمن معتقدات بعض الحضارات القديمة ومنها الإغريقية ،ككتابات سوفوكليس مثلًا ،والذي كان يقول:

(لو لم أولد فهذا أفضل ،ولكن إن أجبرت على الولادة و رؤية الضوء ،فإن أفضل شيء بعد هذا ،هو الرجوع إلى العدم.)

كما أن هذه الفكرة وجدت أواصرها في العالم الإسلامي لدى العديد من المفكرين ،اللذين كانوا يرون أن الإنسان يجلب الشرور أكثر من الخير ،وأن الألم في هذه الحياة مستمر ويغلب دائمًا على السعادة ،مما جعلهم يكلِّلون بعدم الإنجاب ،وأشهرهم أبو العلاء المعري ،والذي كُتب على قبره:(هذا ما جناه علّي أبي وما جنيت على أحد).

وحُمّلت هذه الفلسفة بالعديد من الآراء المثوبة لها ،على صفحات كتابات الفلاسفة المعاصرين مثل ديفد بيناتار ،الذي نشر كتابه -الموجه لأي شخص يعتبر الإنجاب عمل مبررًا أخلاقيًا- (من الأفضل لو لم نولد) في عام 2006 ،وكان يقول فيه بحزم ،أن إنجاب الأطفال ذنب لا يمكن الاتفاق عليه من الناحية الأخلاقية ،فإذا كان الآباء يريدون بذل قصارى جهودهم لحماية أطفالهم من المعاناة ،نادرًا ما سيلاحظون أن الطريقة الوحيدة المؤكدة لتجنيب الأبناء هذه المعاناة ،هي عدم إنجابهم أصلًا لهذه الحياة التي تعتبر مستقرًا لمختلف أنواع الألم والعذاب.

كما أن الأستاذة و الفيلسوفة كرستين أوفارال في كتابها (?why have children) تتصدى لحجج الإنجابيين والتي لا تعتبرها كافية لاتخاذ قرار كالإنجاب ،على غرار :

⁃ إن إنجاب الأطفال قد يكون لمصلحة الأطفال أنفسهم،بغرض الاستمتاع بملذات الحياة .

ولكنها ترد هذه الحجة ،بدافع أن الكائنات التي لن يكون لها وجود ،لا يمكن أن تكون لها قيم أخلاقية ،أو شعور بالخسارة .. إلى آخره.

وكذلك قامت بالرد على حجج أخرى من مثيلات:

⁃ الحب (والذي حمل شوبنهاور ردًا لها أيضًا) على أنه المسؤول الأول لاستمرارية الأذى والبؤس في هذا العالم ،إذ هو قلب هذه المأساة التي تتكرر بدون توقف ،والتي تشكل التاريخ التابع لهذا العالم ،إذ تميل تطلعات العشاق إلى الديمومة عبر تفشي المأساة عن طريق الإنجاب.

⁃ الانتصار الجيني و تحقيق الواجب تجاه المعتقد أو الدين ،كذلك لا يمثلان حججًا كفيلة بإنجاب طفلٍ لمواجهة استنزاف الموارد الطبيعية والكوارث البيئية،الفقر المطقع ،العنف ،الاستعباد الفكري والاقتصادي ،الاكتضاض السكاني ،وحتى الاكتئاب ومواجهة مشاكل الحياة اليومية .. بل إنها قد تصب في مصب الأنانية وعدم المسؤولية.

لذلك أصحاب هذه الفلسفة ،يرون أن الخيار الأمثل هو التوقف عن السلسلة الإنجابية ،لتنقرض البشرية في هدوء وسلام.

فلماذا بعد كل ذلك ننجب الأطفال ونزيد بؤس هذا العالم بؤسا ؟!

وهل يعتبر الإنجاب في ظل الظروف العالمية التي نعيش ،عملًا أخلاقيًا ؟