كأنّه فتح نافذةً على جحيمٍ لا يُشبه شيئًا من الدنيا، لا شيء فيه يثبت.

شاهد المشهد كما يُشاهد المرء كابوسًا وهو يقظ، لا يملك أن يغمض عينيه، ولا أن يصرخ.

ركامٌ فوق ركام… جدرانٌ انخلعت من أساسها، أرواحٌ اختفت بلا أثر، وأمكنةٌ أُفرغت من معناها.

كلّ شيء بدا كأنّه انهار دفعةً واحدة؛ البيوت، الذاكرة، الخطط المؤجلة، والضحكات التي لم تُكمل طريقها.

ذلك لم يكن دمارًا فحسب، بل انطفاءٌ جماعيّ لحياةٍ كاملة.

وفي عُمق الصمت الذي خلّفه المشهد، كانت القصص تصرخ، ولم يسمعها أحد.

فهذه ليست مجرد صور دمار وبيوتٍ مهدّمة غدت أكوام حجارة.

إنما هي قصص بيوتٍ كان أهلُها ينامون آمنين، ويحيون حياتهم في طمأنينة.

بيوتٌ شُيِّدت بالمحبّة والمودّة والإقبال على الحياة.

هي قصص عائلات كانت تحلم بحياةٍ كريمة، خارج سجنٍ كبير يُسمّى وطنًا محاصرًا.

قصص آباءٍ وأمهاتٍ كانوا يتطلّعون إلى مستقبل أطفالهم، مستقبلِ جيلٍ قادمٍ يُكمِل الحياة، ويُواصل غرس الوطن:

أطباء، مهندسون، مزارعون، حرفيون، أدباء، معلّمون، تجّار، سياسيون، قادة، أصحاب أعمال وشركات، علماء، آباء، أمهات، عائلات، وأطفال — قصّة لا نهاية لها، كان ينبغي أن تستمر وتُنتج الأفضل.

تحت كلّ ردم، وتحت كلّ حجر، قطرةُ دمٍ، أو أشلاء، أو طفلٌ لم يستطع أهله انتشاله من تحت الركام.

تحت كلّ سقفٍ مهدوم، وقد سقطت جدرانه، كانت هناك شقّةٌ من بين مئات الآلاف من الشقق،

شقّةٌ حملت بين جدرانها قصّة عائلة،

قصّةٌ فريدة ومختلفة لكلّ عائلة،

وقصّةٌ مختلفة وفريدة كذلك لكلّ فردٍ من أفراد تلك العائلة.

مئاتُ القصص التي تمزّقت صفحاتها، وتركَت مفتوحةً بلا نهاية.

قصصٌ مليئة ببطولاتها، وتحدّياتها، وإنجازاتها، وأفراحها، وحتى مصائبها، وأحزانها.

هناك، كان طالبُ توجيهي ينتظر نتيجته النهائيّة، كما في مثل هذه الأيام،

وأمّه على أعصابها تنتظر، لتفرح به،

لكنّه دفنها بيديه.

وفي تلك الزاوية، كان أبٌ ينتظر ولادة طفله الجديد، بعد شهورٍ من حملٍ طويلٍ ومعاناة،

والآن لا يعلم أين دُفن ابنه، وتحت أي سقفٍ استقر.

وفي آخر الشارع، كان هناك شخصٌ فُصل من عمله، يحمل هموم الدنيا على كتفيه،

ويُفكّر كيف سيتابع التزاماته حتى نهاية الشهر.

لكن، تُرى، هل لا يزال لديه التزاماتٌ يُثقلها همه؟

هل لا يزال لديه أطفالٌ يشغله مصروفهم، ودراستهم، وطعامهم، وشرابهم؟

وفي الحيّ المجاور، كان هناك خريجٌ جديد، بدأ للتوّ رحلةَ البحث عن الحياة،

وعلى بُعد بضعة كيلومتراتٍ، كانت جامعته — التي مُسِحت الآن عن وجه الأرض —

لا شهادات، ولا مراسم تخرّج، والمستقبل ضاع.

وجيرانهم، كان ابنهم يبحث عن شريكةِ حياةٍ يُكمل معها العمر.

الله أعلم، هل ما زالوا أحياء؟ من بقي ومن رحل؟

أو لعلّهم أقاموا زفافهم في تلك الخيمة…

الخيمة التي احترقت مع غيرها من الخيام التي احتمت بها عائلاتٌ نازحة.

وفي منطقة قريبة، كانت هناك معلّمةُ صفٍّ ابتدائي…

تُناضل بكلّ ما أوتيت لتبني جيلًا مبدعًا، مميّزًا، متربّيًا على حبّ الوطن.

لكن الصفّ ذهب، والمدرسة فُجّرت، والطلاب ما عاد لهم وطن،

أو لعلّ وطنهم ما عاد فيه لمستقبله شبابٌ ينتظرهم ليبنوه.

القصص كثيرة، لن تنتهي،

والوجع عميق، لن يندمل.

والعالم ظالمٌ ظلمًا لا يُضاهى… ظلمٌ لا يُغتفر.

والخذلان أشدّ من كلّ القصص، ومن كلّ المآسي،

ومن كلّ هذا الظلم،

ووجعه أثقل من كلّ ردم،

وطعمه أمرُّ من طَعمِ الصبر.

والشهداء، والجرحى،

والثكالى، واليتامى،

والأسرى، والمفقودون،

والصابرون، والمناضلون…

هم ذاتُهم أبطالُ القصص وشخصيّاتها، القصصِ التي سمعناها، والتي لم نسمعها.

بشرٌ عاديّون، لا ملائكة، ولا من زمن الصحابة،

لكنّهم تربّوا على حبّ الوطن،

وعرفوا أنّ للهزيمة طَعمًا من الذُّل لا يزول،

وأنّ الصبر والصمود يُخلِّدان قصّتهم،

ويُورِّثان عزّتهم لأبنائهم وأحفادهم،

وحبّهم لأرضهم، إلى الأبد.

وما زالوا صامدين، وما زالوا يُقاومون،

لأنّ القصة غدت ملحمةً، والملحمة لها فصول،

فصولٌ لا تزال تتجدّد كلّ يوم، وما زالت مستمرّة،

تُكتَب من تحت الركام، فصلًا بعد فصل.

وكلّ تلك التفاصيل، كلّ تلك الحيوات التي انطفأت وسط الغبار والركام… كانت تنبض في بقعة صغيرة من الأرض، اسمها غزة، حيث لا تزال الحياة تُنبت وردةً من قلب الرماد.

اللهمّ فرَجَك لعبادك المستضعفين.

“إنّما يُوفَّى الصّابرون أجرهم بغير حساب.”