فتن العلاقات: ليسوا صدفة في حياتك... إنهم دروس خفية في ثوب الألم
مقدمة:
قال تعالى: {وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضࣲ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِیرࣰا }[سُورَةُ الفُرۡقَانِ: ٢٠]
ليست كل الفتن في الدنيا من فقر أو مرض أو فقد...
بعض الفتن "أشخاص"، يعيشون معنا، نُحبهم، أو نُخدع بهم، أو يؤذوننا، أو يختبرون صبرنا، كأنهم وُضعوا في طريقنا ليمتحن الله قلوبنا بهم!
فالله تعالى قدّر أن يكون بعض الناس سببًا في اختبار صبرك، وصدقك، وأخلاقك، وثباتك.
وحين يكون البشر اختبارًا لبعضهم، قد تتساءل في لحظة من لحظات الحياة:
لماذا هذا الإنسان؟
لماذا هذا الظلم؟
لماذا هذه العلاقة المعقدة؟
لماذا هذا المدير، أو هذا الجار، أو هذا القريب؟
فتأتي الآية كأنها تجيب بكل وضوح وهدوء:
{ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟ }
ما معنى "فتنة" ؟
الفتنة في اللغة: الاختبار والامتحان.
وفي هذه الآية، يخبرنا الله أن بعض الناس في حياتك هم امتحان لك…
– امتحان لصبرك،
– أو لحِلمك،
– أو لتسامحك،
– أو لأمانتك،
– أو لتوكّلك على الله.
إنهم جزء من "منهاج حياتك"، كتبه الله بحكمته، ليهذّبك، لا ليُعذّبك.
وقد تكون الفتنة في:
جفاء القريب، وظلم القريب أشد.
غدر الصاحب، وكم من قلب انكسر من خذلانٍ غير متوقّع.
رؤية من يعصون الله وهم في نعيم، فيميل القلب للسخط.
أو حتى في من يُحسَد على دينه أو خلقه، فيكون فتنة لغيره.
قال بعض السلف:"الفقير فتنة للغني، والضعيف فتنة للقوي، والمريض فتنة للصحيح، والولي فتنة للعدو، وكلٌّ مبتلى بكلٍّ."
أنواع الفتنة بين البشر
1. فتنة الأقوياء بالضعفاء
قال بعض المفسرين: نزلت الآية في الكفار الذين كانوا يستهزئون بالفقراء من المؤمنين، فبيّن الله أن هذا الابتلاء مقصود:
هل يتواضع الغني؟ هل يصبر الفقير؟
هل يشكر المعافى؟ هل يرضى المُبتلى؟
2. فتنة الظالم بالمظلوم
أحيانًا يُبتلى الإنسان بشخص ظالم، فيُختبر:
هل يصبر؟ هل يلجأ إلى الله؟ هل يأخذ حقه بميزان الشرع والعدل؟
3. فتنة القريب المؤذي
ربما تكون الفتنة في أخ أو قريب أو زوج أو زميل… لا يخرجك من الإيمان، لكنه يخرجك من صبرك!
وهنا يقول الله: { أَتَصْبِرُونَ؟ }
السؤال الذي تطرحه الآية ليس للتوبيخ، بل للتذكير:
﴿ أَتَصْبِرُونَ ﴾
هل تصبر على الأذى؟ على الظلم؟ على الإحساس بعدم الإنصاف؟
هل تصبر وتُحسن الظن بربّك رغم الفتن؟
ليس المطلوب ألا تتألم، بل أن تصبر…
أن تكفّ يدك ولسانك عن الظلم، وأن تحفظ قلبك من الحقد، وأن تمضي لله، لا للناس.
هل الله غافل؟
لا…
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا }
يرى ألمك، يرى صبرك، يرى حسن تعاملك، يسمع كلماتك التي كتمتها كي لا تؤذي، يرى دموعك التي أخفيتها… يعلم كم صبرت، وكم تألمت، وكم دعوت وأنت تبكي، وكم كظمت غيظك، وكم سامحت، وكم تحملت ما لا يُحتمل…
ولن يضيع شيء من أجلك.
لا موقف مرّ عبثًا، ولا أذى فُعل ظلمًا، إلا ويُحاسب الله عليه عدلًا أو يعوّضه فضلًا.
الله بصير بمن ظلم، وبمن ظُلِم.
بمن فتن غيره، وبمن صبر واحتسب.
كيف نتعامل مع فتنة الناس؟
1. تذكّر أن الله هو الذي قدّرهم في طريقك
ليس عبثًا، بل ليرتفع رصيدك عنده؛ فمن جعلك تمر بهذه العلاقة أو الموقف، هو من يعلم كيف يُربّيك بها.
2. اجعل صبرك لله، لا لأجل رضا الناس
فمن صبر لأجل الله… أعانه الله.
3. ابنِ حصنك الداخلي
لا تجعل كل كلمة تؤذيك، ولا كل تصرف يهزك… ضع في قلبك أن الناس ليسوا دائمًا كما تتمنى، لكنك تستطيع أن تكون كما يُحب الله.
4. اجعل معاملتك للناس تعبّدًا لله
"أسامحك لا لأنك تستحق، بل لأن ربي يحب العافين عن الناس."
5. لا تنتظر من الناس عدلًا كاملاً: العدل الحقيقي يوم القيامة… أما في الدنيا، فالصبر نصف النجاة.
6. اجعل الفتنة سلّمًا للترقّيل: يكن موقفك معهم سببًا في ترقيك عند الله، لا سقوطك معهم.
7. ادعُ بهذا الدعاء: اللهم لا تجعل فتنتنا في ديننا، ولا في أنفسنا، ولا في من نحب، ونجّنا من فتن الناس، وثبتنا يا أرحم الراحمين."
يقول الشعراوي رحمه الله في تفسير الآية:
كل بعض منا فتنة للآخر، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير، والفقير فتنة للغني .. إلخ فحين يتعالى الغني على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا فتنة للغني، وحين يحقد الفقير على الغني ويحسده، فالغنيّ هنا فتنة للفقير، وهكذا الصحيح فتنة للمريض، والرسل فتنة لمن كذّبوهم، والكفار فتنة للرسل. والناس يفرون من الفتنة في ذاتها، وهذا لا يصح؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، فالذي ينبغي أن نفر منه نتيجة الفتنة، لا الفتنة ذاتها، فالامتحان فتنة للطلاب، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ. إذن: الفتنة في ذاتها غير مذمومة.
ختامًا…
هذه الآية تذكّرك أن الناس لن يكونوا دائمًا كما تريد…
قد يؤذون، يخذلون، يتغيرون، يغارون، يُكذبونك، يتجاهلونك…
لكن لا تترك قلبك يتيه معهم…
ثبّته بالله، واصبر… فربك بصير.
الحياة ليست فقط بالصلاة والصيام، بل أيضًا:
– في صبرك على من لا يُطاق،
– في لطفك مع من يُقصّر،
– في كظم غيظك حين تُستفز،
– في حُسن خُلقك حين تُمتحن.
كل هؤلاء… "فتنة".
لكن خلف كل فتنة، مقام عالٍ في الجنة ينتظرك.
فهل تصبر؟
إن صبرت… رأيت.
التعليقات