"ولا تقْرَبُوا الفواحش"... حين يُنهى القلب قبل الجسد

مقدمة

ليست كل المحرمات في القرآن نُهي عنها بالنهي المباشر عن الفعل، لكنّ بعضَها خُصَّ بنهيٍ أبلغ: "لا تَقْرَبُوا".

هذا التعبير يربّي في القلب الورع، لا فقط الامتناع عن الحرام، بل اجتناب كل ما يدني إليه، مهما بدا بسيطًا أو بريئًا.

قال تعالى:

  1. { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُوا۟ مَا تَقُولُونَ } [سُورَةُ النِّسَاءِ: ٤٣]
  2. { وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلزِّنَىٰۤۖ} [سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ٣٢]
  3. { وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُ } [سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ٣٤]
  4. { وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ} [سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ١٥١]

وسنسلط الضوء في هذا المقال على النهي الأخير، { وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ}.

الفواحش... ما ظهر منها وما بطن

قال تعالى:

{ولا تَقْرَبُوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأنعام: 151]

وقال:

{ولا تَقْرَبُوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلًا} [الإسراء: 32]

الفاحشة: هي كل معصية عظيمة تمس طهارة النفس أو كرامة الإنسان أو حدود الله، وعلى رأسها الزنا، لكنه يشمل أيضًا كل ما فَجُر، وخرج عن حدّ الحياء، سواءٌ ظهر للناس، أو خفي في السرائر والنيات والنظرات.

لماذا لم يقل "لا تفعلوا الفواحش"؟

لأن الطريق للفاحشة يبدأ بخطوات:

نظرة، فكلمة، فمزحة، فخلوة... ثم هوى يسحب صاحبه.

فجاء الأمر الرباني حازمًا:

"لا تَقْرَبُوا"

أي لا تمشوا في طريقها، لا تبرّروا بداياتها، لا تتهاونوا بمداخلها.

"ما ظهر منها وما بطن"... اختبار الإخلاص

بعض الفواحش تُعلن، وبعضها يُخفى في نظرة، في خيال، في سرّ هاتف، في نيةٍ لم تُعلَن...

والله يعلمها كلها.

فإذا صدق العبد في ترك الفاحشة، فليجتهد أن يطهر قلبه مما بَطَن، كما يطهر جوارحه مما ظهر.

حماية النفس لا تكون قرب الحافة

حين ترى على طريق السفر لوحة: "منطقة خطر.. لا تقترب"

فالعاقل لا يقول: "سأقف على الحافة فقط!"

بل يبتعد خطواتٍ كثيرة قبلها.

وكذلك أمر الله.

"ولا تَقْرَبُوا الفواحش"

فلا تجعل الحدود الأخلاقية محلّ اختبار يوميّ لنفسك!

ومضة من تفسير الشعراوي

يقول سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ..} [الأنعام: 151] وهذا نهي عن القرب، أي نهي عن الملابسات التي قد تؤدي إلى الفعل لا نهي عن الفعل فقط؛ فحينما أراد الله يحرم على آدم وعلى زوجه الشجرة قال: {أية : وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ...} تفسير : [الأعراف: 19] لأن القرب قد يغري بالأكل، وكذلك: {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ} أي لا تأتي إلى مقدمات الفواحش بأن تلقي نظرة أو تحدق النظر إلى محرمات غيرك، وكذلك المرأة التي تتبرج؛ إنها تقوم بالإقبال على مقدمات الفواحش، فإذا امتنعت عن المقدمات أمنت الفتنة والزلل. (الأنعام:151)

الخلاصة:

الفواحش تقتل النور في القلب، وتطمس الحياء، وتُطفئ طمأنينة الإيمان.

ولذا كان المنع منها منعًا شديدًا، يبدأ من بعيد:

لا تقربوا...

فالمؤمن لا يقترب من الحرام، لا فعلًا ولا نظرًا ولا حديثًا ولا تبريرًا.

اسأل نفسك دائمًا:

هل ما أفعله اليوم... يقرّبني منها، أو يباعدني عنها؟