إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩

الآية الكريمة التي نحن في رحابها هي ومثيلتها في القرآن الكريم من اشد آيات الوعيد في حق علماء السوء ودعاة الفتنة , الذين فتح الله تعالى عليهم من علم الكتاب واصبحوا معروفين بين الناس بهذه السمة , علماء الدين ومشايخه , فهؤلاء لهم النصيب الأوفر من هذا الوعيد المزلزل الرهيب , إن اتخذوا علم الكتاب مطية لمآربهم وحظوظهم الدنيوية , إنّ انتسابهم لعلم الكتاب وفقه الشريعة , يكسبهم المكانة والمهابة في قلوب عامة الناس , التي تعظم الكتاب وتوقره وأهله القائمين عليه والعاملين به ,وكلما ازدادوا شهرةً بين الناس كلما عظمت مكانتهم وصارت كلمتهم مسموعة ومطاعة عند عامة الناس , وعندئذٍ تقع الواقعة المجلجلة , إذا اغتر هؤلاء العلماء بكثرة اتباعهم وصاروا يطلقون الكلام في كتاب الله تعالى بما يوافق أهوائهم وأهواء الملوك الذين يملكون الدنيا والقنوات الفضائية والمنابر التي يطلع من خلالها العلماء والشيوخ على الناس ,

وكتاب الله تعالى بما فيه من هدي وبيانات وحقٍ وميزان , لا يوافق أهواء الحكام والملوك ولا حتى أهواء الناس , عندئذ يكون العلماء على مفترق الطريق إن اتبعوا الكتاب واظهروا بيناته وحكموا به على واقع الناس والملوك , اصطدموا بصخرة عاتية تلفق الهام , وتذهب براحة الدنيا ونعيمها , وإن تركوا الكتاب وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون سقطوا من أعين الملوك , وضاعت هيبتهم عند الناس , فتضيق عليهم الأرزاق ويصيرهم عيشهم كداً , وتذهب القنوات والمنابر ومعها الشهرة والمال والمجد ..... وهكذا تضيق عليهم الخيارات حتى تضطرهم إلى قواعدهم الذهبية مثل الضرورات تبيح المحظورات ! ودرء المفاسد أولى من جلب المنافع ! ومصلحة الدعوة وضرورة استمرارها !... وهكذا يفتح الباب على مصراعيه للتحريف والتزييف لما لابد من الحديث عنه من علم الكتاب , وما يمكن كتمانه مما يزعج الحكام يكتمونه ولا يَحمون حوله , أما الحديث عن الفضائل والأخلاق والمسائل الفقهية البحتة , فهذا مرتع خصب لا ينضب ابدأ والكل يَرد عليه وينهل منه حتى يَتَرع ويتشبع منه كل مفصل فيهم ! ........ وهكذا يسلم لهم دينهم [حسب اعتقادهم ].. أو بعض دينهم ... وما نقص منه فان الله تعالى غفور رحيم , كما أن ما نقص من دينهم فهو غارق في بحر حسناتهم مما بذلوه من جهدٍ في دعوة الناس والوعظ والإرشاد الديني في مجال الأخلاق والفضائل والمثل ! 

وهكذا لو بحثنا ونقبنا عن أسباب ضلال الأمم والشعوب خصوصاً أهل الكتاب من اليهود والنصارى وهذه الأمة المحمدية سنجد أن السبب الرئيس هم العلماء والمشايخ الذين ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل .

أولئك الذين تتوعدهم الآية الكريمة بوعيد جلل وخطب جسيم مهول , إنها لعنة الله تعالى التي إن حلت على احدٍ محقته محقاً وسحقته سحقاً , وجعلته مُثلةً للعالمين يوم القيامة , وأما في الدنيا فيتمتعون وينعمون بالشهرة والمجد ولا خلاق لهم في الآخرة

كما تحل عليهم لعنة اللاعنون , وان كنا لا نعلم على وجه التحديد من هم اللاعنون , إلا أننا على يقين انهم جند من جنود الله تعالى ومن عباده المخلصين الموكلون بصب اللعنات صباً على أمثال هؤلاء الذين يكتمون ما انزل الله تعالى في الكتاب , ويشترون به ثمناً قليلاً , وما يزال اللعن ينصب عليهم في الحياة الدنيا ما داموا على هذه الحالة من التعامل مع آيات الله تعالى , بل ويستمر صب اللعنات عليهم في الدار الأخرة إن ماتوا على هذه الحالة . 

   إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠ 

ورغم فداحة الذنب وعظمة الجرم الواقع من هؤلاء العلماء الذين يصدون عن سبيل الله تعالى بتحريف آيات الكتاب وكتمانها , طلباً لمتاعٍ زائل وحياة دنيا, إلا أن القرآن الكريم ـ كعادته دائماً , كونه من آثار أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العليا ـ يفتح لهم أبواب التوبة , ونوافذ الخلاص , ولا يقطع عليهم خط الرجعة والإصلاح , وهذا مقتضى رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء ولا يمكن لذنب مهما بلغ أن يخرج من أقطارها وينفذ منها .... إلا أن يموت ابن ادم على ذنبه وكفره وضلاله , فعندئذٍ تتلقاه صفات أخرى من صفات الله تعالى وذلك حسب نوع الذنب وقدره .