سلام.

أنا فتاة تقف على عتبة الشباب، لم أعد طفلة تحتمي بالبراءة، ولم أصبح بعد امرأة تعرف طريقها بثبات. أقف في المنتصف، في مساحة معلّقة بين ما كنتُه وما يُراد لي أن أكونه. كبرتُ قليلًا، ومع هذا الكبر لم تأتِ الطمأنينة، بل جاء وعيٌ ثقيل، كأنه حمل وُضع فجأة على صدري، وتعبٌ يتسلل إلى روحي دون ضجيج.

صار العالم من حولي غريبًا، كأنني أنظر إليه من خلف زجاج. والأقسى أن هذه الغربة لم تأتِ من الغرباء، بل من أقرب الوجوه إليّ: أسرتي، أمي، إخوتي. البيت الذي كان يُفترض أن يكون ملاذًا، صار مساحة أسئلة لا تنتهي.

أحاول أن أفهم، أن أبرّر، أن أجد سببًا لما يحدث، لكنني لا أصل إلى شيء. أكثر ما يؤلمني هو أمي. كيف يمكن للأم، التي يُفترض أن تكون الأمان الأول، أن تصبح مصدر ارتباك داخلي؟ أعلم أنني أمرّ بمرحلة دقيقة، مرحلة عبور هشّة من الطفولة إلى الشباب، مرحلة تتكاثر فيها الأسئلة وتتشابك فيها المسؤوليات، لكن هذا لا يبرر أن أشعر بأن كوني فتاة خطأ، أو أن نموي الطبيعي يُقابل بالريبة والعقاب.

تطلب مني أمي أن “أحافظ على نفسي”. عبارة تُقال بحدّة، دون شرح، دون احتواء، حتى فقدت معناها الإنساني، وصارت ثِقلًا آخر يُضاف إليّ. ومع الوقت، بدأت أشعر وكأن جسدي عبء، وكأن وجودي نفسه يحتاج إلى تبرير دائم. ثم جاءت تلك الجملة التي لا تزال عالقة في داخلي: إن البنات لا يُوثق بهن. جملة واحدة كانت كافية لتزرع فيّ شرخًا صامتًا، شكًا في نفسي، وفي حقي بأن أُصدَّق.

إخوتي أيضًا تغيّروا. صار التدخل في حياتي أمرًا طبيعيًا، وكأنني لا أملك ذاتي. أعلم أن الاحترام واجب، لكن الاحترام لا يعني المحو، ولا يعني أن تُصادر اختياراتي باسم الوصاية. لا أفهم لماذا يُسمح لهم بالتدخل في دراستي وطموحي ومستقبلي، فقط لأنني فتاة، وكأن أنوثتي تهمة تستوجب الرقابة.

المكان الذي أعيش فيه لا يخيفني بصخبه، بل بصمته. صمت طويل يضغط على الروح، يعلّمني الخوف بدل الثقة، والتراجع بدل المحاولة. شيئًا فشيئًا، بدأت أخاف من التجربة، من الخطأ، من السقوط، فأختار أحيانًا ألا أحاول، كأنني أُفضّل الخسارة الصامتة على جرح جديد.

كل ما أعرفه، وكل ما أتمسك به، أنني لا أريد لهذا الوجع أن يتكرر. لا أريد لأطفالي في المستقبل أن يكبروا وهم يحملون هذا التوتر، وهذا الخوف، وهذا الإحساس بأن ذواتهم عبء أو خطأ.

لا أدري إن كنت قد قلت كل ما في داخلي، ولا إن كانت كلماتي وصلت كما أشعر بها تمامًا، لكن هذا صوتي الآن، وهذا وجعي كما هو، دون تزييف.