كم مرة قيل لك إنك عُنِّفت "لمصلحتك"؟
اسأل راعي الغنم.
في البدء تُرفع العصا وتقترن بصوت ليفهمه القطيع، ثم ما يلبث أن يكتفي بالصوت وحده عندما يتشرّب القطيع معنى الطاعة. لكن ما إن تخرج شاة عن الخط المرسوم، حتى نعود إلى العصا؛ لا لأن الراعي يرعى مصلحتها، بل لأنها كسرت نظامه. ومع اتساع القطيع يكثرة التمرد،و يستعين الراعي بكلاب لضبطه، فالعنف قد يصبح ضرورة.
الراعي بحاجة إلى غنمه كونها مصدر رزقه، والغنم بحاجة إلى الحمايةفهي لا تملك غير الراعي. ومع ذلك، حين ترى شاةٌ مرعىً غير مرعاها، تتوهم أن من حقها بلوغه، وفي المقابل يرى مالكها أن هذا حق لغيرها، وأي ضرر سيُحدثه تجاوزها يعود عليه تعويضه. وفي عالم الحيوان يكون الردع أحيانًا ضربًا، وفي عالم الإنسان تتعدد أدوات السلطة لفرض النظام : تنبيه، سجن، تعذيب، وربما سلب للحياة، وفق ما يتناسب مع مصلحة المجتمع كما تراها السلطة.
وفي أحيان يترك الراعي كلابه لتفعل ما تشاء في غيابه، قد يعلم بأذيتها ويغض الطرف لأن خبرته في الرعي موروثة كمنصبه. وقد يشدد قبضته حينًا، ويبالغ في العنف حينًا آخر، وقد يذبح شاة يراها مزعجة ليجعل منها درسًا يُرضي صمته الداخلي.
وهكذا تُفرض القوانين في بداياتها بالقوة. في مثالنا: الكلاب تمثل السلطة التنفيذية، والراعي هو مشرّعها، وفي أوقات الطوارئ يصبح هو الحكم والجلاد. الشاة التي تخطو خارج حدودها هي المخالفة، والغنم التي ضُيّق عليها هي العوام، أما تلك التي ذُبحت فقد قُدِّمت كعِبرة وحلّ سريع.
من هنا تنطلق الأسئلة الكبرى، على أي أساس تُسن القوانين؟ وكيف تُقدّم الخدمات؟ وكيف تُحمى الحقوق؟ وهل تُصان المبادئ أم تُرفع كشعارات لحماية أصحاب القرار؟
القوانين تُكتب بعناية، لكن الاستثناءات تُحاط بها لتحمي المشرّع نفسه وتمنح فئاتٍ معينة امتيازًا لا يناله غيرها. أما الخدمات، فتتضاءل جودتها كلما ابتعدت عن مركز القرار، وإن وُجدت، تبقى آليات التبليغ والتنفيذ محل نزاع وتباطؤ.
الحقوق المضمونة في النصوص كثيرًا ما تُنتهك عند التطبيق. والقيم التي يُرفع لواؤها تُعلّق بلا تردد إذا تعارضت مع مصالح النفوذ. نعرف جميعًا أضرار الربا والمسكرات والتدخين، لكنها تُقدّم كحقوق مستندة إلى منظومات قيمية مستوردة، بينما تُغَيَّب قيم المجتمع نفسه.
تستطيع أن تطالب بأي قانون، لكن المعضلة الحقيقية ليست في الفكرة بل في كيفية صياغتها وآليات تنفيذها. فإذا تراجع أصحاب المبادئ عن مسؤولياتهم، فلمن تُترك السلطة؟
عندما يُسنّ أو يُعدل أي قانون لا بد من استناده إلى مرجعية جامعة، وفي حالتنا: الدستور. فالقانون يمسّ حياة الناس مباشرة، وتغييره مرتبط بظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يمكن فقط استنساخها من تجارب الآخرين.
قد تملك الدولة الثروات، لكنها قد تُظهر عجزًا في تقديم أبسط الخدمات بسبب سوء إدارة، أو مؤسسات ترفض التعاون، أو أطراف تستفيد من العقود الخارجية على حساب المؤسسات والعمالة المحلية… وغير ذلك كثير.
المشكلة ليست في النصوص، بل في من يتولى تنفيذها. قد تقرأ في الدستور أن حرية التعبير مكفولة، ثم تجد القانون يختصرها في كلمات محددة لا تتجاوز سقفًا معينًا، ويُعامل الناس وفق قربهم أو بعدهم عن مركز السلطة.
وأما المبادئ، فلكل مجتمع مرجعية. ومرجعيتنا الدين. فإذا استوردنا نموذجًا غربيًا قائمًا على فصل الدين عن السياسة دون وعي وسياق، سنجد أنفسنا أمام ميكيافيلية جديدة تبرِّر كل شيء في سبيل البقاء في السلطة.
لنسأل أنفسنا من جديد: كم مرة عُنِّفنا لمصلحتنا؟ وكم مرة استُخدم “حرصهم عليك” ليُحافظوا هم على سلطتهم؟
ملحوظة: نحن لسنا أغناما
التعليقات