ما أقسى أن تموت الجماعات وهي تتنفّس! وما أشدّ فجيعة الروح حين ترى جسد المجتمع العزيز ينخرُه سوسٌ خفيٌّ، لا يبرح يلتهم أواصره ووشائجه حتى يتحوّل إلى أشلاء متناثرة. هذه هي الفتنة.. ذلك الوحش الكاسر الذي لا يثور صراخًا، بل يزحف زحفَ الأفعى في ظلمة، يلقي سمومه في أذن الضعفاء، ويدسّ أنيابه في خاصرة القويّ، حتى إذا ما استفاق المجتمع على دويّ انهياره، لم يجد سوى أنقاضٍ ما عاد يُعرف فيها أخٌ من عدوّ.
كيف تقع الفتنة؟
لا تنبت الفتنة في تربةٍ صلبةٍ متماسكة، بل في شقوق النفوس المتعبة، وفي ثغرات النزاع المستتر. قد تكون شرارةً صغيرة: كلمةٌ جارحةٌ تُساء تأويلها، حظوةٌ يُحسد عليها إنسان، تنافسٌ مشروعٌ يتحوّل إلى حسدٍ أعمى، أو جرحٌ قديمٌ لم يندمل. هنا، حيث يضعف التماسك، وتخفت أصوات العقل والحكمة، تجد الفتنةُ ترابًا خصبًا تنبت فيه. إنها لا تأتي عاصفةً مدوية، بل تبدأ همسًا خافتًا، ونفخةً مسمومةً في الظلام، تُضخّم الخلاف البسيط، وتُلبس سوء الظنّ ثوب الحقيقة، وتُخرج من زاوية النسيان كلّ جمرةٍ قد كادت تنطفئ.
وكيف يدخل الفتنوي من باب النصح؟
هذه هي المكيدة الأشدّ خبثًا! لا يحمل الفتنويّ لواء الشرّ صراحةً، بل يتزيّن بزيّ الناصح الأمين، والمحبّ المشفق. يدخل من أوسع الأبواب وأقدسها: باب النصح والإصلاح! يرى ثغرةً في نسيج العلاقات – خلافًا بين قريبين، توترًا في العمل، حساسيةً بين فئتين – فيهرع إليها مُظهرًا الوجل والحزن. يبدأ حديثه: "والله ما أقول إلا حرصًا عليكم.. لقد بلغني كذا وكذا.. وأخشى أن يفسد الحال أكثر.. إن فلانًا يقول فيكم كذا.. وربما قصدوا بفعلكم كذا..". ينفخ في نار الشكّ تحت ذريعة التنبيه، ويلقي بالاتهامات مغلّفةً بعبارات "الحرص" و"الخوف على المصلحة". إنه يتسلّل إلى القلوب من منفذ الثقة، ويُدخل سمّه تحت ستار الإشفاق. يغتال الطمأنينة باسم الحفاظ عليها، ويُمزّق اللحمة بدعوى خياطتها!
والوعي.. حصانة النفوس:
هنا تكمن النجاة. الوعي هو المصباح الذي يُبدّد ظلام المكيدة. الوعي أن نتساءل: من المستفيد من إشاعة هذا الكلام؟ لماذا يأتي هذا "الناصح" الآن وبالطريقة هذه؟ هل كلمته تهدئ أم تهيّج؟ هل تجمع أم تفرّق؟ الوعي أن نردّ كلام النمام إلى صاحبه، أن نتحرّى الحقّ قبل أن نصدّق الإشاعة، أن نذكر دائماً أن "الناصح" قد يكون هو الأفعى ذاتها. الوعي أن ندرك أن اختلاف الرأي لا يعني العداوة، وأن التنافس لا يلغي الأخوّة. حين تكون القلوب يقظة، والعقول متّزنة، تموت الفتنة في مهدها، ويُكشف المستترون ولو تلبّسوا بألف لباس.
ولعن الله من أيقظها:
إن دعاء اللعن هنا ليس مجرد انفعال، بل هو حكمٌ على فعلةٍ شنيعة. من يوقظ الفتنة النائمة في مجتمعه، ليس كمن يقتل فردًا واحدًا. القاتل ينهي حياةً، أما مُوقِدُ الفتنة فيُزهق روح المجتمع بأسره. إنه يُدمّر بيوتًا لا تُحصى، يورّث الأحقاد بين الأبناء والأحفاد، يُبدّد ثروات الأمم في صراعاتٍ عبثية، ويُحوّل الجيرة إلى عداوة، والإخاء إلى شنآن. إنه يقتل الحاضر ويسمّم المستقبل. لقد جاء في القرآن الكريم: "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ"(البقرة: 191). لماذا؟ لأن القتل ينهي حياة الفرد، أما الفتنة فتمزّق نسيج المجتمع، وتقتل الثقة، وتُفني الإيمان بالآخر، وتترك وراءها خرابًا أخلاقيًا ومعنويًا وماديًا لا يُعمر بسنين، بل يحتاج إلى أجيال. إنها قتلٌ بطيءٌ ومتعذّر للجماعة، موتٌ بلا كفنٍ ولا دفن، بل ببقاء الجثة ممزقةً تتآكل.
الفتنة جريمةٌ ضدّ الإنسانية جمعاء قبل أن تكون جريمةً ضدّ جماعةٍ بعينها. وهي تذكّرنا بأن أخطر أسلحة الدمار ليست تلك التي تنفجر، بل تلك التي تتسلل إلى العقول والقلوب باسم الخير، فتفتك بالروابط التي تقوم عليها الحياة الكريمة. فطوبى للوعاة الذين يبصرون المكيدة وراء قناع النصيحة، ويئدون الفتنة في مهدها، ويحفظون بذلك دماء القلوب قبل دماء الأجساد، وصيانةً للمجتمعات من مصيرٍ هو أشدّ من القتل وأمرّ.
التعليقات