"هذه ليلتي" رائعة الثلاثي

جرداق وعبدالوهاب وأم كلثوم

كتب/ صالح عبده إسماعيل الآنسي

_______________

يزخر تراثنا الشعري الفني العربي بالكثير من الروائع الفصحى المغناة من قبل كبار عمالقة فن الغناء والطرب،الذين برزوا في العصر الحديث من مطلع القرن العشرين المنصرم حتى نهايته،وخصوصا بالفترة التي نسميها تحسرا وتأسفا على مضيها ب (الزمن الجميل)،الممتدة من ثلاثيناته حتى ثمانيناته،حيث كان الإهتمام الكبير بنوعية وجودة الكلمة المغناة،العامية منها أو الفصحى،وبالألحان والموسيقى،في أغان طربية عذبة،طويلة أو متوسطة،رائعة وأخاذة،تلامس الإحساس في الأعماق،وتخاطب وجدان المتلقي،معبرة عن الكثير من تجاربه العاطفية المشابهة التي مر بها وعاشها،والتي كان الإقبال على سماعها كبيرا عبر المحافل والإذاعات وشاشات التلفزة والأقراص وأشرطة الكاسيت وآلاتها،التي لم تكن تخلو من متاجرها مدينة،ولا يكاد يخلو بيت عربي من الخليج الى المحيط من مقتنياتها ومكتباتها،ولا زالت الذاكرة الجمعية الوجدانية العربية تمتلئ بها،وتتوارث الرجوع إليها الأجيال المتعاقبة كأعمال خالدة،تزخر بوسائطها الآن شبكة الإنترنت،ومواقع التواصل توثيقا وإهتماما،وتلبية للطلب المتزايد عليها،لعودة المتلقي العربي إلى الأصالة والرقي بالذائقة.

وكان الزمن الجميل– بحق – هو العصر الذهبي للأغنية العربية،وخصوصا في كثرة الإهتمام – الذي لم يتكرر – بغناء أروع القصائد الفصحى،من تراثنا القديم،أو من النتاج الجديد،الذي كان بعضه يكتب بشكل بنائي عروضي خاص ليغنى،أو لينشد.

وخدمة منا للغة الضاد وإهتماما بها،وإعلاء من شأنها،ولما كان وسيظل للكلمة الفصحى المغناة من قيمة بلاغية وفنية وجدانية كبيرة،وما للشعر من علاقة وثيقة بالغناء،كون الغناء فن عظيم راق،ولد من رحم الشعر ونتج عنه،وكون الغناء والموسيقى يبعثان في النص الشعري روح الحياة،ويكسبانه عوامل البقاء والخلود؛ أرتأينا في أسرة تحرير مجلة أقلام عربية أن نخصص لهذا الموضوع الجميل والخلاب صفحة من الإهتمام والتناول في كل عدد.

☆ هذه ليلتي :

في هذا المقال سأبدأ بتناول عمل يعد من بين أجمل روائع الشعر العربي الحديث المغناة على الإطلاق،وهو من وجهة نظري : أغنية: (هذه ليلتي)،كلمات : جورج قرداق،ألحان : محمد عبدالوهاب،غناء : كوكب الشرق أم كلثوم،التي سحرني جدا جمال وعذوبة كلماتها،ولحنها وموسيقاها وأداؤها،كعمل أدبي وفني جد رائع ومتكامل،منذ المرة الأولى التي استمعت إليها وأنا طفل صغير حالم،نشأ على حب المشاهدة والاستماع لروائع الزمن الجميل.

وهي أغنية حضيت – منذ إطلاقها في القاهرة ب كانون الأول 1968م – بالنجاح العظيم والإنتشار الواسع،واستفاضت الصحافة حينها في الكلام عنها،كما يحدث عند كل تعاون جديد بين أمّ كلثوم وعبدالوهاب،منذ ولادة " أنت عمري" في العام 1964م،وتناولها الكثير بعد ذلك بالكتابة والتحليل :

☆ حكاية الأغنية :

ولد الشاعر والأديب اللبناني جورج جرداق في محافظة النبطية، بالجنوب الشرقي اللبناني سنة 1931م،وانتقل للعيش ببيروت سنة 1949م، اشتُهر بعد أن ألف الكثير من الكتب،وخصوصا عن الإمام علي كرم الله وجهه،وزادت شهرته أكثر عندما عمل في الإذاعة اللبنانية،ومجلة الشبكة،وصحيفة الأنوار،الشهيرتين في ستينات القرن الماضي،لكن إجابته على سؤال كانت قد وجهته له أم كلثوم هي التي جعلته من المشاهير في الوطن العربي كله،وليس في لبنان وحده،أما هذا السؤال الذي رفع من قدر هذا الشاعر وجعله من المشاهير العرب؛ فكان من السيدة أم كلثوم عندما التقت به في أحد أيام سنة 1968م،في فندق قاصوف، بمدينة ضهور الشوير،في جبل لبنان،حيث كان هذا الفندق ملتقى المشاهير والمطربين العرب في ستينات القرن الماضي،سألته : متى سأغني من كلماتك يا جورج؟ فأجابها على الفور قائلاً لها : "هذه ليلتي وحلم حياتي يا سيدتي أن تغني من كلماتي"،فقالت أم كلثوم : "بس يا جورج هذه الكلمات التي قلتها ستكون مطلعاً للقصيدة التي سأنتظرها منك قريباً جداً"،وبدأ جورج في كتابة هذه القصيدة على الفور،وبعد أن انتهى من كتابتها وقدمها للسيدة أم كلثوم أعجبت بها، وعرضتها على الملحن الكبير محمد عبدالوهاب لتلحينها،ما أن قرأها عبدالوهاب حتى أعجب بها،ويقال أنه بكى عندما قام بتلحينها من شدة تأثره بها،هذه القصيدة هي الوحيدة التي تمكنت من كسر قاعدة ذهبية للسيدة أم كلثوم،فالسيدة أم كلثوم كانت ترفض أن تغني للخمريات،حتى أنها كانت قد استبعدت الكثير من أبيات الشعر التي وردت في رباعيات الخيام،لكن ولع محمد عبد الوهاب وحماسته لهذه القصيدة جعلها تُليّن من موقفها،وتشذّ عن هذه القاعدة التي كانت قد وضعتها لنفسها،كانت تحفة “هذه ليلتي” ما نتج عن التوليفة الإبداعية بين تأليف جورج جرداق وألحان محمد عبدالوهاب وغناء السيدة العظيمة أم كلثوم.

وفي مهرجان لها ببعلبك وشتورا أعلنت كوكب الشرق أنها ستغنّي أغنية لشاعر لبناني من ألحان محمد عبدالوهاب،وجاء ذلك في سياق القرار الذي اتخذته بأن تختار شاعراً وقصيدة من كل بلد عربي،كما نقلت الصحافة العربية في نهاية آب 1968،وقيل أن جورج جرداق حينها نزل ضيفاً على برنامج "حنكشيات منوعة" التلفزيوني،وقرأ بصوته قصيدته "هذه ليلتي" التي يلحّنها عبد الوهاب لأمّ كلثوم.

وفي كتابه "حكايات الأغاني" يروي فارس يواكيم : "كان محمد عبد الوهاب يحب جورج جرداق وشعره، وذات مرة أخبره أنه كان تكلم بالهاتف مع أمّ كلثوم،وهي تبلغه السلام،وأضاف : "ولقد اتفقنا على أن تغنّي أمّ كلثوم قصيدة لك في الموسم القادم"،وفكّر الشاعر في كتابة قصيدة تليق بسيدة الغناء،وقبل أن يشرع في ذلك جمعته سهرة بعبد الوهاب في أحد فنادق مصيف بحمدون،وفيما هما جالسان في الشرفة المطلة على الوادي الجميل،راح جورج جرداق يردّد أبياتاً من قصيدة له عنوانها "هذه ليلتي"،وحين سمعها عبد الوهاب قال: هذه هي القصيدة،رائعة،للمرة الأولى المرأة هي صاحبة القرار،هي التي تقول "هذه ليلتي"،وكانت قصيدة جورج جرداق تبدأ بمطلع غير الذي عرفه المستمعون حين ذاعت الأغنية وملأت الأسماع،كان الشاعر بدأ قصيدته قائلا :

هذه ليلتي وهذا العودُ

بثّ فيهِ من سحرهِ داوودُ

وفي البيت إشارة إلى النبي داوود صاحب المزامير، لكن أمّ كلثوم طلبت تغيير المطلع بسبب تلك الإشارة،وقالت للشاعر : "نحن المسلمون والمسيحيون نجلّ النبي داوود،ونقول سيدنا داوود"؛ فعلّق جورج جرداق قائلاً : "سبق لعبد الوهاب أن غنّى "وهل ترنّم بالمزمار داوود" في قصيدة " تلفتت ظبية الوادي"، وأنت يا كوكب الشرق غنّيت في "سلوا كؤوس الطلا" : "جرت على فم داوود فغنّاها"،يعني اسم داوود موجود في الشعر العربي المغنّى أيضا"؛ فأجابت أمّ كلثوم : "أيوه..بس يومها ما كانش فيه إسرائيل ونجمة داوود"،استجاب الشاعر طلب أمّ كلثوم،وأعاد كتابة مطلع القصيدة"

وفي مقال له بعنوان : " هذه ليلتي" روى محمود الزيباوي : " كتب محرّر مجلة "الشبكة" : "حلّقت الجماهير في آفاق الطرب والنشوة ساعات هي العمر،كانت الملايين من المحيط إلى الخليج على موعد مع أمّ كلثوم ليلة الخميس الماضي،وكان لموعد هذا العام عبير خاص بالنسبة للنيل والجبل الأخضر،وبالنسبة للأهرام وبعلبك،فقد استهلت أمّ كلثوم سنتها الغنائية بقصيدة للزميل اللبناني الشاعر جورج جرداق،عملاق من عمالقة الكلمة في لبنان،لحّنها محمد عبدالوهاب سيد النغم على ضفاف السمراء،وأدتها قيثارة السماء أمّ كلثوم"، استعادت أمّ كلثوم في الوصلة الأولى من حفلتها قصيدة "الأطلال"،وبدأت "هذه ليلتي" في الوصلة الثانية بين الوصلتين،وقف عبد الوهاب وراء الستار وهو يتمتم آيات من القرآن،وقد خرج من بيته قبل الحادية عشرة،وهام بسيارته على النيل،وهو يتمتم آيات القرآن،الفنان العظيم يستغيث بالسور وآي الذكر؛ ليتسلح بهما للموقف العصيب،سحب مقعداً وجلس وراء الستار،وألقى نظرة على القاعة، وبلغته أمّ كلثوم،فانبعث واقفاً ليجتمعا بأقطاب الفرقة الموسيقية،بزغ نجم فاروق سلامة فجأة بعدما أسندت جمل رئيسية من اللحن إلى أكورديونه الصدّاح،ولهذا وقف بين القمتين،يستمع للحوار بينهما،وينفّذ الأنغام على الأكورديون،ومضت الدقائق،أخليت الكواليس تماماً من كل الناس، ومشت أمّ كلثوم على الكلمات مع اللحن،واطمأن عبد الوهاب فحيّاها وابتعد،وتسمّرت قدماه والستارة تنفرج،وعاصفة من التصفيق تستقبل أمّ كلثوم. وبدأت الفرقة الموسيقية،وعبد الوهاب مرهف السمع وهو يهزّ رأسه،وغيّر وقفته غير مرة، ومصمص بشفتيه إعجاباً،وأعاد هزّة الرأس بمزيد من نشوة لم يطمسها القلق،وبدأت أمّ كلثوم تغنّي،وانسحب عبد الوهاب من مكانه، وبينما الملايين تصفّق للحن اللقاء السادس بين عملاق الموسيقى وأستاذة الطرب،كان عملاق الموسيقى ينزوي في سيارته ويقول للسائق : "خلّي الراديو واطي،وامشي على مهل"، قلق لا يستريح،سائقه يعرف طباعه، ولا يقطع عليه تأملاته،في الماضي كان يعود إلى البيت،ويلتقي بشلّة أصدقاء في بيت أحدهم، ولكن هذه المرة أخلى نفسه للاستماع".

☆ النص الأخاذ للأغنية :

هذه ليلتي وَحُلْمُ حَيَاِتي

بَينَ مَاضٍ من الزّمانِ وَآتِ

الهَوَى أَنَتَ كُلُّه والأمَانِي

فَاملأ الكأسَ بِالغَرامِ وَهَاتِ

بَعدَ حِينٍ يُبدّلُ الحُبُّ دَارَا

وَالعَصَافِيرُ تَهجُرُ الأوكَارَا

وَدِيارٌ كَانَت قَدِيمًا دِيارَا

سَتَرَانَا،كَمَا نَرَاهَا قِفَارَا

سَوفَ تَلهُو بِنا الحَياةُ وتَسخَر

فَتَعَالَ أُحِبُّكَ الآنَ أكثَر

وَالمسَاءُ الذِي تَهَادَى إِلينَا

ثُمَّ أصغَى وَالحُبُّ في مُقلَتينَا

لسُؤَالٍ عَنِ الهَوَى وَجَوَابٍ

وَحَدِيثٍٍ يَذُوبُ في شَفَتينَا

قَد أَطَالَ الوُقُوفَ حِينَ دَعَانِي

لِيَلُمَّ الأشواقَ عَن أَجفانِي

فَادن منّي وخُذ إِليكَ حَنَاني

ثُمُّ أَغمضْ عَينيكَ حَتَّى تَرَانيَ

وَليَكنُ لَيلُنا طًوِيلاً طَويلاً

فَكثيرُ اللقِاءِ كَانَ قَليلاَ

سَوفَ تَلهُو بِنَا الحَياة وَتَسخَر

فَتَعَالَ أُحُبّك الآنَ أَكثَر

يَا حَبيبِي طَابَ الهوَى مَا علينَا

لَو حَمَلنَا الأَيَّامَ في راحَتَيْنَا

صُدفَةٌ أَهدَتِ الُوجُودَ إِلَينَا

وَأَتاحَت لَقاءَنَا فالتَقينَا

فِي بِحارٍ تَئنُّ فيهَا الرّياَحُ

ضَاعَ فِيَها المِجدَافُ والملاَّحُ

كَم أَذلَّ الفِرَاقَ مِنَّا لقاءُ

كُلُّ ليلٍ إِذَا التقينَا صَباحُ

يَا حَبِيبًا قَد طَالَ فِيِه سُهَادي

وَغَريبًا مُسافِرًا بفُؤادِي

سَوفَ تَلهُو بِنَا الحَيَاةُ وَتَسخَر

فَتَعَالَ أُحبُّكَ الآنَ أكثر

سَهَرُ الشَّوقِ في العُيُونِ الجميلة

حُلُمٌ آثَرَ الهوَى أَن يطِيلَه

وَحَديثٍ في الحُبِ إن لم نَقُلهُ

أَوشَكَ الصَّمتُ حَولَنا أن يقُولَهْ

يَا حَبيبي وَأنت خمرِي وكأسي

وَشراعِي فوقَ البحَارِ وشَمسِي

فيكَ صمْتي وَفيكَ نطقِي وَهمسِي

وَغَدي في هَوَاك يَسبِق أمسِي

كَانَ عُمري إلى هَواكَ دليلاً

واللَّياليِ كَانَت إِليكَ سَبِيلاَ

سَوفَ تَلهُو بِنَا الحَيَاةُ وَتَسخَر

فَتَعَالَ أُحبُّكَ الآن أكثر

هَلَّ في لَيلَتي خَيَالُ النّدامَى

والنُّواسِيُّ عَانق الخَيّامَا

وَتسَاقَوا مِن خَاطِرِي الأحلامَا

وَأَحَبُّوا وَأسكرُوا الأيُّامَا

رَبِّ مِن أين للِزمَانِ صِباهُ

إن صَحونَا،وَفَجْرهُ ومَساهُ

لَن يرَى الحُبُّ بعدَنَا مَن هَوَاهُ

نحنُ لَيلُ الهَوَى ونَحنُ ضُحَاهُ

مِلءُ قَلبي شَوقٌ وَملُّ كيانِي

هَذه لَيلتي فَقِفْ يا زَمَاني

سَوف تَلهُو بِنا الحَياةُ وتَسخَر

فَتَعَالَ أُحبُّك الآن أكثَرُ

☆ أجمل تحليل لنص الأغنية :

أجمل تحليل وجدته لنص هذه الأغنية، مكتفيا به، هو ما كتبته د. أمل الطعيمي..قائلة : "هي قصيدة بدت كالطود الشامخ أمام كل القصائد -العامي منها والفصيح،الطويل والقصير - التي تحدثت عن ليلة،حلم بها كل العشاق منذ خلق الإنسان،وما زالوا يحلمون بليلة حب واحدة قد تكفيهم العمر كله، ولكن لماذا كانت ليلة جورج جرداق مختلفة؟!، يقول الشاعر :

هذه ليلتي وحلم حياتي

بين ماض الزمان وآت

الهوى أنت كله والأماني

فاملأ الكأس بالغرام وهات

حلمه الذي رافقه ليال طويلة..ها هو ذا يتحقق في ليلة ما؛ ليلة يمتلكها،وهي الفاصلة بين ماض تولى ومستقبل يتهيأ له ومن أجله؛ ولكنه لا يعرف كيف يكون،فلربما كان بداية أو نهاية،ليلة اختصرت الهوى في شخص محبوبته،فلمَ بدا مبتهجاً كل هذه البهجة،سعيداً منتشياً بهذا اللقاء ؟ بدا كذلك لأنه موقن بأن الحياة لا تصفو،وأن الحب قد يتبدل والأحباب يتفارقون،واقعي هو حتى النخاع في هذا الجزء الذي يقول فيه :

بعد حين يبدل الحب دارا

والعصافير تهجر الأوكارا

وديار كانت قديماً ديارا

سترانا كما نراها قفارا

كل شرارة حب بين اثنين تندلع من حيث لا يدرون، صدفة تقلب أحوالهم وتمنحهم وجوداً آخر،حياة أخرى،غير تلك التي يعيشونها،ربما كانت لهم حياة راكدة تشبه الموت،أو حياة صاخبة كموج هائج يفقد فيها المرء ذاته؛ كما يفقد مجدافه،وفي حياة كتلك، أو هذه؛ يكون للهوى نكهة الحياة ولون الفرح،فحق له أن يسعد بذلك التحول،وذلك اللقاء الذي يختصر كل الليالي في ليلة .

مؤلم هذا التوقع القريب من الصواب حد الإيمان به،غير أنه في الوقت نفسه هو الذي زرع البهجة المتناهية بتلك الليلة،فأسباب الفراق مختلفة؛ ولكنها قريبة وحاضرة خلف كل لقاء؛ فإن لم يكن اليوم؛ فبعد حين،حيث تقفر الأماكن من الأحبة،أو تقفر القلوب منهم،فنظرتنا للديار المقفرة بعد عمار ستكون ذات النظرة لنا بعد حين،وهو يختصر رؤيته تلك في بيت يتكرر بعد كل أربع منها :

سوف تلهو بنا الحياة وتسخر

فتعال أحبك الآن أكثر

فليقتنص من زمانه ما يستطيع،وما يصفو له منه ويجود به،فتقلبات الحياة واقع لا مفر منها، فليهرب إذن من خوفه إلى فرحه،لا وقت للخوف والترقب :

يا حبيبي طاب الهوى ما علينا

لو حملنا الأيام في راحتينا

صدفة أهدت الوجود إلينا

وأتاحت لقاءنا فالتقينا

في بحار تئن فيها الرياح

ضاع فيها المجداف والملاح

كل شرارة حب بين اثنين تندلع من حيث لا يدرون، صدفة تقلب أحوالهم وتمنحهم وجوداً آخر،حياة أخرى غير تلك التي يعيشونها،ربما كانت لهم حياة راكدة تشبه الموت،أو حياة صاخبة كموج هائج، يفقد فيها المرء ذاته كما يفقد مجدافه،وفي حياة كتلك أو هذه يكون للهوى نكهة الحياة ولون الفرح، فحق له أن يسعد بذلك التحول،وذلك اللقاء الذي يختصر كل الليالي في ليلة،ليلة حب صاخبة،يعربد في القلوب فرحها وأنسها،ويستبدل سهر السهد بسهر الشوق الذي صار قاب قوسين أو أدنى من الارتواء،ليلة استحضر فيها طربه أشهر ندامى الديار القديمة وفلسفتهم في الحياة :

هلّ في ليلتي خيال الندامى

والنواسي عانق الخياما

وتساقوا من خاطري الأحلاما

وأحبوا وأسكروا الأياما

وإن كانوا قد سكروا بالخمر في زمن مضى،فالشاعر يسكر بكأس الهوى،وفرحة تمددت على التاريخ والعصور،في تحد سافر للزمن؛ فأعادت فرحته أولئك الندامى للحياة؛ ليتساقوا أحلامه التي تحققت،ليحبوا من جديد،ولتغمرهم فرحة أيام سكرى فتنشغل عنهم،أجدني عاجزة عن اختيار الكلمات؛ فكل ما يمكن أن أخطه لن تنافس ما قاله الشاعر وعبر به عن فرحته الغامرة،التي سولت له أن يصرخ آمراً الزمان بالتوقف،بعد أن قفز ببهجته إلى سالف العصور :

ملء قلبي شوق وملء كياني

هذه ليلتي فقف يا زماني"

☆ ما قيل عن الأغنية :

– قالت أمّ كلثوم : "الكلام الحلو لا وطن له، مثلما نجده على ضفاف النيل، وفي جبل لبنان؛ سوف نجده على ضفاف بردى، وفي جزيرة العرب، وأنا أحب أن أغنّي لكلّ شاعر مجيد".

– قال محمد عبدالوهاب : "يا عيني على السهل الممتنع في قصيدة جورج جرداق".

– قال كل من عاصي ومنصور رحباني: "محمد عبدالوهاب هو المعلم الأكبر،والينبوع الزاخر الذي غمر الشرق بنتاج الموهبة الفذة،والعمل المستمر الذي لم ينزل عن القمة لحظة واحدة،وما نحن إلا روافد من بحره الكبير،فلولاه لما كنا نحن ولا كان سوانا"

– قال زكي ناصيف : "عبد الوهاب هو الموسيقى العربية ولا شريك له فيها"

– قال وديع الصافي : "عبد الوهاب فوق الآراء،وعوضا أن يعطي واحدنا رأياً في عبدالوهاب؛ عليه أن ينحني على يده ويقبّلها".

– قالت فيروز : "كنت على سرير المرض في المستشفى بالمدة الأخيرة،لا أفتح عيني إلا لأستمع إلى رائعة عبد الوهاب وأمّ كلثوم الأخيرة "هذه ليلتي" أو أغنّيها،الله يطول عمر عبدالوهاب،ويعطيه من أعمارنا لكي يبقى الذوق الرفيع في سلامة،على يد عملاق الذوق والجمال".

– قال إبرهيم الخوري كاتبا في "الشبكة" : "أرادت كوكب الشرق أن تحيّي لبنان،فاستهلت حفلتها بقصيدة رفيقنا الشاعر اللبناني جورج جرداق ورائعة محمد عبد الوهاب "هذه ليلتي"،غنّتها بحبّ وسعادة وانشراح،وغنّتها بلذة وكيف وتصرف، وتلاعبت بنغماتها تلاعبها بمشاعر الحاضرين؛ فانتفضوا يصفقون ويرقصون ويجنّون".

– قال محمود الزيباوي في مقاله الآنف الذكر : "دخل إسم جورج جرداق موسوعة الغناء العربي من الباب الواسع،من طريق قصيدة لحّنها عبد الوهاب وغنّتها أمّ كلثوم،وكانت له تجارب أخرى في هذا الميدان،إلا أن أيّاً منها لم يرتق إلى مصاف "هذه ليلتي".