من بين كل المشاكل التي واجهته ، ظهر وتغلب عليها ومع قدرته العجيبة على تخطي العقبات فلم يستطع أن يتخطى البكاء يبكي كالطفل لأسباب عاديه تمس مشاعره .. ربما أو ربما تلامس جرحاً قديماً فآلمه فيعود يبكي ورغم بكائه فهو صلب في مواقف الشدة لا يهتز للصدمات بل يهز الصدمات فينبهها بأنها ستتأثر كما تأثر به فهو لن يتركها المستفيد الأوحد بل سيستفيد منها ، فكل الصدمات التي مرت أكسبته الصبر والجلد والقوة والحنكة التي يواجه بها تعقيدات الحياة ومشاكلها دون ما أطاله تفكير فهو يستنتج بشكل سريع ويعود لواقعة منتصراً .
عندما مات ابني لم تدمع عيناه وكنا جميعاً نبكي بحرارة فهو الابن الأكبر الذي تعودنا عليه والذي أعددناه ليشاركنا مشاكل وهموم الحياة ويخفف عنا وطأتها عند الكبر ، لم يبكي أقسمت ابنتي أن أباها لا يحب ابنه احمد أو بمعنى آخر لم بل يشغر بالحزن على وفاته رغم كل الحب الذي كان يبديه في حياته ، ولم ألحظ على زوجي أي شيء سوى أن أول يوم لوفاة احمد كان واجماً لا يتكلم ثم عاد لطبيعته فكان يتحدث معي ومع بناته وبعد أسبوع من هذا الحادث جاءني يمازحني فصرخت في وجهه
أين تلك الدموع التي تبديها عندما ترى موقفاً مؤلم ألم يؤلمك موت ولدك
لم يرد وأدار وجهه ورحل لعنته ألف مرة وآلاف اللعنات صببتها على رأسه ، ألا يشعر بما نشعر به من ألم من ضيق من كدر من ، ومن ، ومن كل الهموم التي سقطت على رؤوسنا بسبب وفات ابننا الوحيد ألا يشعر .
لحقت به شددته من ثوبه سألته : أين دموعك ؟ أجب ، لم يلتفت لم يعرني اهتماماً فتشبثت بثوبه وأخذت ابكي التفت إلي أخيراً وقبلني على رأسي كعادته فحدثته بلسان ثقيل خالطه البكاء ألا تشعر بفقد ابنك فنظر لي وهز رأسه بمعنى انه يشعر
ومر الأسبوع الثاني ولم ألحض شيء إلا انه قل كلامه ولكن ابتسامته الصامتة لم تفارق شفتاه ولا يحب أن ينظر إلى وجوهنا وجاء الأسبوع الثالث وكنا نجلس معه وهو منشغل بكتاب وكنا نـحدثه فيهز رأسه أنه سمع ما نقول ، ثم اسند رأسه إلى الكرسي وأغمض عيناه فرأيت فيه ما لم أره قط وكأنه يذبل .
شغلت عيناي بشيء أخر لكي لا أعكر عليه غفوته التي لم أتعود عليها ولم أرها من قبل .. أردته أن يرتاح أو ربما يريحني من تهكماته التي يضن أنها تنسيني ولدي لكن فضولي دفعني أن اذهب إليه فقمت من مكاني ومشيت في تباطؤ ، فكلنا ملأنا الضيق منه بعد وفاة احمد ، ولما اقتربت منه بدا شاحب الوجه كسته الصفرة أصابني الرعب وأمسكت يده فإذا بها باردة ، انقبضت أنفاسي وتسارعت يداي إلى وجهه اقلبه وأناديه خالد ، خالد ، فكان رأسه يتأرجح بين كفي كوسادة خفيفة لا تسكنها الروح صرخت بكل صوتي
خالد ، خالد
التفت اللي بناتي وتراكضوا ماذا حصل فسقطت عند قديه ابكي وهو لا يشعر بنا تداركت كبرى بناتي الأمر فاتصلت بالإسعاف ورافقناه إلى المستشفى وحيينها عرفنا ماذا أصابه .. ضعف عام وانهيار عصبي حاد ، بسبب الحزن الذي لم يرد أن نشعر به في فقد احمد مكث في المستشفى أسبوعان وعاد بعدها إلى منزله غريباً لا يتكلم إلى ما ندر ولا يأكل إلا القليل فهو يمشي لا بل يتحرك كالريشة لا بل يحركه الهواء لا بل هو خيال إنسان ما إن نلتفت عليه نجده يبكي في صمت تفضحه دموعه نحدثه فلا يرد إلا بكلمات أو يهز رأسه ويبتسم ابتسامة صامته .
وذات يوم كنت أرافقه إلى الطبيب حذرني بأنه لو بقي على تلك الحالة فسوف ينهار ولا يستطيع أن يستنتج ما سوف يصيبه ولم يختلف ضن ذلك الطبيب كثيراً فبعد يومان اتكأ على نفس الكرسي ومسك نفس الكتاب ثم رفع رأسه وأسنده على كرسيه وأغمض عيناه إلى الأبد مات خالد هماً على ولده وقد اتهمناه انه لم يحزن عليه أبدا أتعرفون ما الكتاب الذي كان يقرأه ، عفواً القصة التي يقرأها قصه مدرسيه من كتب احمد كان قد ملأ الحواشي بحروف قليل من النكت وكثيرة من الشعر وبعض الواجبات التي كان يجب أن يفعلها نعم هي أشبه بمذكرات أو ملاحظات كان يكتبها ابني ويبكيها زوجي فمات الأول وترك كلماته ورحل الثاني وهو يقرأها .