«لقد وقعتُ في حبّ عقلكِ، وهذا ما يهمّني».

إنّ التحوّل الماديّ الحادث للذكور يحتاج وقتا قصيرًا، بينما نحنُ الإناث ننضج على نارٍ هادئة، تبرزُ صدورنا وتبدأُ خرائط أوجهنا بالتغيّر بشكلٍ تدريجيّ، بينما تلعبُ مناطق أخرى منّا على السموّ ناشرة الدماء، ويحدث هذا في فترة معتبرة ما؛ أعتقد أنّ الكثير من الذكور قد غطّ الشعر أصدغاهم بينما كانوا قبلَ شهر قريبٍ جدّا بلا زَغَب.

لقد لاحظتُ ذلك منذ أشهر، حينما بدأتِ البثور الحمراء تتسلّل رويدا إلى جبهة وجهي وهي تخطو خطواتٍ خطيرة من أجل محاولة قتل نفسيّتي، ولو أنّ للأمرِ تفسيرًا علميًّا مُقنِعًا قرأتُ عنه سابقا في إحدى المقالات التي خربشت تفكيري، وغيّرت نظري للأمور الجلديّة، إلّا أنّ ما يُثير اندهاشي هو خلوّ هذه البثور من أوجه قريناتي اللواتي يدرسن معي، وبعيدًا طبعا عن مفهوم البشرة الدهنيّة التي تختلف من شخصٍ إلى آخرَ فإنّ أوجههنّ ولو كانت خالية من البثور، إلّا أنّها مطلّسة بالمساحيق التي أكرهها من دخيلة قلبي، وربّما أكون قد بدّدتُ اندهاشي بهذه الملاحظة الأخيرة، لكنّ هذا الاندهاش لا ينفكّ يعود تارة أخرى لسبب أو لآخر. في فترات متباينة من أيّامي، تسري فيّ رعدة تحرّك أوصالي وتجعلني أتحسّس جسدي، من أجل متعة سرعان ما ينخمد مارِجها، ثمّ أعود وألتفّ في قوقعة مظلمة أكتشف من خلالها أنّي أبلغ. لاحظتُ مؤخّرا أنّني أقف أمام المرآة أكثر من اللازم وممّا أحتاج، أمشط شعري الطويل والملولب أكثر من مرّة كلّ صباحٍ، وأصلح هندامي مرّات كثيرة، في محاولة لا إراديّة لتغطية نقاط ضعف وجهي، تاركة بعض العطر الرخيص (ولم يكن عندي إلّا ذاك) في ثيابي، ثمّ أنتهي وأنا بالكاد ألهثُ، وأرى أنّني لا زلتُ قبيحة ولم أستفد قطرة من عملي، فأعود وأنفث شعري من هنا وهناك وأُرجِع تعرّجات القميص إلى مكانها، وأُظهِر بُثوري، ثمّ ألعن وقتي الضائع وأخرج حاملةً المحفظة إلى الثانويّة.

 تقابلني أوّل لفحة لِعليلِ الصباح، بينما ترسل الشمس البهيّة أشعّتها في شروقها العميق، الذي تضرب جنباته في تقاسيم قلبي، يحدث هذا وأنا أمشي بين ضبابٍ أبيضٍ في منعرجات الحيّ الملتفّ كثعبان لادغ، سائرةً وسارحة في الشخوص والأحوال التي بالكاد أراها. في كثيرٍ من الأحيان نُخطِئ، ومتيقّنة أنّ الخطأ هو الشخص الوحيد القادر على تعليمنا تعليمًا صائبا بشكل مطلق، ولسوء الحظّ (أو حسنه) أنا أخطئ من أوّل اليوم إلى آخره، وإذا أصبتُ يومًا فإنّي أندرج تحت ظلّ القائل: «أنا شخص يُصبح على بناء أعمدة حياته، ويُمسي على تدميرها»، ولو أنّي أكره كَثرة الكتابة بضمير «أنا» (ففي الأخير لسنا شيئًا كبيرًا حتّى نتحدّث به) إلّا أنّ ضرورة السياق قد جذبتني، وربّما أشعر ببعض الراحة وأنا أكتبُ في مذكّراتي، فإنْ قُرئت يومًا ما هذه الكلمات من غيري (وقد يكون أنا في المستقبل) فإنّي من الآن أقدّم اعتذاراتي الخالصة على عَجرفتي.

كان هذا اليوم إذا والذي أُخلِّده في الرقّ بين الحروف وعلامات الترقيم يومًا عجيبًا ومغايرا لما أعيشه، ولكي أكون صادقة لم أكتب منذ مدّة في كرّاسي، ولولا الحدث الأخير لما سجّلتُ شيئًا، لأنّني أعيشُ في دائرة مغلقة، وكان هو فقط القادر على سحبي منها. سرتُ خافِضة الجناح وأنا ألج عبر البوّابة، بينما كان أوّل ما رأيته هو ابتسامة أستاذتي التي شجّعتني على المضيّ نحوها. 

- أنتِ تزدادين بهاءً عاما بعد عامٍ. -صرّحتْ وهي تُصلح خصلات من شعري المتطاير. 

رأيتُ فيها بوجه ينمّ عن التعجّب والإعجاب في آنٍ واحدٍ، وسألتُ نفسي في جزء من الثانيَة: «لماذا أظهر لهم جميلة دائمًا بينما أرى نفسي كقنفذٍ مُغلَّف بريشٍ حادّ؟»، ثمّ انفلتَتْ منّي عبارة شُكرٍ بحياءٍ ضخم، بينما قابلتني أستاذتي مرّة أخرى بماء منهمر من عبارات المدح على جمال وجهي وعقلي. ولم أسطع الدخول معها في أيّ حديثٍ، فقد كان الجرسُ قد رنّ وكنّا - نحنُ الاثنتين - قد سرنا سويّة إلى قاعات الدراسة، حيثُ كانت بصدد تقديم درس في الفرنسيّة للقسم الذي يقبع بجانبنا. 

وضعتُ محفظتي على الكرسيّ وقد وجدتُ الطاولة مفروشة بالأكل، وليس هذا شيئًا جديدا عليّ، لأنّ زميلتي التي تشاركني هذه الطاولة تأخذ فَطورها الصباحيّ في المدرسة، وهذا أمر أمقتهُ منها، في الأخير لم أكترث يومًا له ما دام أكلها لا يمسّ جهتي بسوءٍ. إنّ مهمّة بعض التلاميذ في المدرسة هي عدم الدراسة، وقد نجد هذا بصفة أقلّ عندنا، وليكن، فقد انتشر خبرُ غياب الأستاذة كنارٍ في هشيم يابسٍ، وقد جلبه لنا أولئك المجانين الذي يسعون لاستغلال أيّ دقيقة من أجل الخوض في لعبة يُسلّون بها أنفسهم كلّ وقتِ فراغٍ: كانوا يجتمعون ذكورا وإناثا ثمّ يغمّضون أعينهم، بينما يحيط شخصٌ مختارٌ منهم - وهو الذي يُدير اللعبة - ويحدّد شخصيّاتٍ معيّنة ذات أدوارٍ خاصّة، ثمّ تنفتح العيون جمعاء بأمر من الرئيس ويبدأ التكهّن من طرف اللاعبين بماهية الشخوص المحدّدة، ولاكتشاف شخصيّة كلّ لاعب، والتي هي غائبة منطقيّا عن لاعبٍ آخر. ولا أعلم صراحة إن كنتُ قد نقلتُ الأساس في هذه اللعبة كما يجبُ، أم لم أوفّ الحقّ، لكنّ المهمّ - وكي أكون صادقة - أنّ الإثارة سرعان ما تنتشر بينهم ويبدأ الحماس يتضخّم حتّى في صدري وأنا أتابع مجريات اللعب خلسة. لم أكنِ الوحيدة التي لا تلعب، بل كان هو يُشاركني الفعل كذلك. 

في فترات الراحة وبين الساعات الطويلة من الدراسة، كان يلتقي الأحبّاء في النقاط المظلمة من الحجرات لتبادل العناقات وفي بعض الأحيان القبل، وعلى أقلّ تقدير عبارات الحبّ واللمسات الذاهبة، بينما كان هو يلتقي بكتابه ويعرّي صفحاته من أجل ممارسة الحبّ العقليّ فقط؛ فكّرتُ قبل أسبوع من دخولنا المدرسيّ وتسجيل العام الأخير في الثانويّة أنّه يُمارس أسلوبًا عجيبًا لكبح غرائزه وتنشيط كلّ يومه في الدراسة والقراءة بعيدًا عن الإناث وأحاديثهنّ، وفي مرّات قليلة كنتُ أجده مع أنثى ما وعندما أعبر عليه ألقاه يشرح بعض أفكار دوستويفسكي أو نيتشه، كان باختصار لا يُريد شيئًا غير كتاب أو نقاش. المرأة لا تحبّ إلّا الرجل الذي يقودها ولو بشكلٍ خفيّ، كان هو يقود عقلي، فهل كنتُ أحبّ؟ 

لعبوا لنصف ساعة للمرّة الأولى، وانتهت المحاولة الأولى بالضحك الصاخب واللذّة العارمة، كنتُ غارقة بين كلمات نجيب محفوظ، وبين كلماته هو التي كانت تظهر في عينيه، وفجأةً سمعتُ ضجيجا آتيا من ذكور القسم، يناشدونه اللعب معهم ولو لمرّة واحدة، والعجيب أنّ الإناث ألحّوا أيضا. رفضَ مرارا وتكرارا متحجّجا بالدراسة، وعندما طغت عليه النداءات قبِل العرض، فترك كراريسه ونهض من مكانه و وتوجّه إلى وسط الحجرة، لكنّ العجيبَ في أنّه سحبني معه قائلًا بجرأةٍ: «هيّا نلعب يا صفاء!» ولم تكد مجاري أذني تستوعب ما تسمع حتّى اندلقت الأسئلة: هل ناداني باسمي؟ هل هو يحفظه أصلًا؟ فلم أُجب، إنّما نهضتُ وتبعته. إنّ المرأة تحبّ الرجل الجريئَ ولو كان هذا الفعل لا يُعتبر عند غيري جرأة، لكنّه كان كذلك عندي. فكّرتُ وقتذاك أنّ المراهقة قائمة بين أفعال ناضجة وصبيانيّة، ولا أعلم إن كان قراري ينتمي للأولى او الثانية. جلستُ أمامه لكنّني لم أغمض عينيّ كلّيّة وليس هذا للغشّ في اللعب، بل لكي أغوص في وجهه وأملأ كأس مشاعري (وليغفر الله لي إن أذنبتُ). لقد كان عجيبًا ذلك الذكر، لأنّه خرج رابحا من المجموعة، قارئا شخصيّات الكثيرين ومكتشفا الكثير من الثغرات، حتّى أنّني والتي كنتُ جالسة أمامه لم أسطع معرفة دوره، رغم تحسّسي للحركة عند اختيار الشخصيّات. حينما أنهينا التفتَ إليّ وقال: «إنّ المذنب الذكيّ دائما ما يجهّز الحجج التي تبرّئه من ذنبه، بينما البريئ المسكين يتلعثم عند سؤاله سؤالا يلفّ بحيثيّات الجريمة، ممّا يجلب الشكوك له، وبهذه الطريقة استطعتُ معرفة هذا من ذاك» نظرتُ في عينيه لثوانٍ وكدتُ أنسى نفسي، حتّى أومأتُ أن نعم. نهض فنهضتُ معه تلقائيّا، اعتذر عن اللعب مرّة أخرى واعتذرتُ كذلك، تركناهم في مرحهم اللذيذ، بينما سرنا إلى باب القسم من أجل الالتقاء ببعض رياح الخريف أو الحبّ. توقّف وهمس ضاحكا:

- أعتقدُ أنّ فرويد أو أينشتاين، أو ربّما حتّى ابن سينا، لو كانوا في زماننا هذا، لما أهدر الواحد منهم وقته في تصفّح مواقع التواصل الاجتماعيّ.

فتعجّبتُ من طرحه، ثمّ فهمتُ فيما بعدُ أنّ هذه الفكرة تنبش في عقله منذ زمن. قلتُ مبتسمة:

- طبعًا، لم يكونوا ليفعلوا ذلك. لكن من يدري قد يحدث العكس؟ ماذا لو فكّرنا بطريقة أخرى بعيدة عن فكرتكَ وتخيّلنا أنّ هؤلاء ثلاثتهم اجتمعوا في زمنٍ واحد، مع كلّ علماء وحكماء الأرضِ من آدم إلى وقتنا هذا؟ 

فردّ بجدّيّة بعد أن فكّر قليلًا:

- أينشتاين عاصر فرويد حقّا، لكنّ ابن سينا بعيد عنهم، وأكيدٌ تعرفين هذا. فكرتكِ جميلة قد تُطبّق ربّما بتكوين مكتبة ضخمة من كتب هؤلاء الحكماء فقط، بتصفية شديدة لنزع كلّ ضارّ وتصنيف دقيق لمتاهة تكوّنها الحكمة والمعرفة، أو ربّما بتجميعهم في صورة باستخدام مصمّم محترف، وطبعا هذا أمر صعبٌ جدّا، لأنّ حجمهم لا نهائيّ، إلّا أنّ هذا الاقتراح الأخير لا يفيد. في نهاية المطاف كلّ العلماء أقزام يتوضّع الواحد منهم فوق الآخر من أجل رؤية حقيقة معيّنة، ولو أنّنا أردنا الإحاطة بهذه الحقيقة فلن نضطرّ إلى بناء سلّم طويلٍ للوصول إليها، بل يكفي فقط اعتلاء السلّم الجاهز، والمكوّن من هؤلاء الجهابذة، ولبّ الحبّة يكمن هنا، اعتلاء السلّم بالقراءة لهم وفهم أفكارهم ودراستها، بدل إضاعة الوقت في بنائه. 

فقلتُ مستنتجة:

- إذًا لا يهمّ ذلك حقّا، كلّ شيئٍ مرتبطٌ بنا نحنُ، بعملنا لفهم ما سبق وما يحدث في وقتنا الحاليّ وما سيجيئ. 

- تمام. - قال بوقار. 

ثمّ نظر إلى الأفق وكانت السماء مغطّاة بالرماد، ليقول وكأنّه تذكّر شيئًا:

- بالمناسبة ماذا تقرئين؟ 

- نجيب محفوظ. 

- أعلم أنّه هو، أقصد أيّ قصّة تقرئين من أولاد حارتنا؟ 

أدهشني سؤاله، ثمّ دقّة اهتمامه. قلتُ:

- أنا في فصل «رفاعة»، الذي يسرد قصّة هذا الأخير. 

- أعلم أنّكِ لستِ في مركز تحقيقٍ لكن من هو رفاعة في نظرك مُسقِطة على الواقع أو التاريخ طبعا؟ 

- المسيح؟ 

- جيّد، إنّها رواية مفتاحيّة رمزيّة، إذا مسكتِ المفتاح الصحيح استطعتِ فكّ جميع الرموز، وفي حالة نجيب هذه فالرمز سهلٌ جدّا.

اغتبطتُ لقوله في البداية «جيّد» ثمّ حينما أنهى كلامه، عرفتُ أنّ الأمر بالنسبة له: «سهلٌ جدّا»، فشعرتُ بالأسى، لأنّ إجابتي لم تبدُ له عظيمًة حقّا. أطلق زفرة وخُيّل لي أنّه قال: «لا عليكِ» وغرق في صمته، ثمّ رنّ جرسُ الساعة الثانية وبدأ طوفان التلاميذ ينداح بين الأقسام كمدّ وجزر لتبادل الكتب المدرسيّة أو ربّما النكت. عاد فجأةً إلى داخل القسم وانسحب عنّي بلا أيّ إنذارٍ، وكأنّه لمس خطرا يجبُ اجتنابه، غذّيتُ الخطى إلى مجلسي، وبينما كان التلاميذ يصلحون أنفسهم - بعد أن أنهوا لعبهم - لاستقبال أستاذ المادّة الثانية والذي كان حاضرا عكس سابقته، جاءت زميلتي وأخبرتني: «هل صدّع رأسكِ؟ إنّه يحكي كثيرا عن شيئ اسمه الجريمة والعقاب، هذا ما قالته لي إحدى صديقاتي والتي تحدّثتْ معهُ سابقا»، نظرتُ فيها نظرة شزراء، ولم أردّ، جلستُ ووضعتُ يدي على خدّي، حتّى شعرتُ بشيئٍ يلمسني على ظهري، أدرتُ عنقي فوجدتُهُ يقول: «حينما نخرج أحتاجكِ لكي أتحدّث معكِ في موضوعٍ معيّن» ضحكتْ زميلتي واضعة يدها على فمها لكتم الصوت، بينما رجع إلى مكانه غير مُبالٍ كطيفٍ ابتلعه النور الساطع، وفعلتُ فعله في اللامبالاة، لكنّ قلبي في كلّ الساعات التي تبقّت اضطرب، ومار، تحرّك ذات اليمين وذات الشمال، وكاد أن يشقّ طريقا خارج جمجمة صدري، منتظرة بكلّ حرقة الخروج من الدرسِ والغرق في الحديث اللامتناهي معهُ. 

وسارت الساعات كأنّها أيّام حتّى رنّ الجرس الأخير، وتوجّهتُ نحوه قائلة هيّا نسيرُ. فسار معي قائلا: «طبعًا لن أسألكِ عن الحبّ، لكنّني سأسألكِ عن الكتابة» فاضطربتُ نتيجة تلميحه إلى الحبّ وسهتُ في أفكاري برهة، حتّى قال: «أعتقد أنّني لم أحدّد السؤال جيّدا: هل تكتبين؟» فرددتُ على حياء وكأنّني أشي بسرّ عزيز عليّ: «نعم... في مذكّراتي» فابستم ابتسامة عريضة وقد رأيتُ أسنانه مصطفّة بانتظام، ثمّ قال: «عرفتُ ذلك». حيّرني ردّه، حتّى قلتُ:

- لكن كيف؟

- أنا أعرف وفقط، ولا يهمّك ذلك حقّا. ثمّ بدأ يتحدّث وهو يحرّك يديه للشرح:

- إنّ هذه الكتابة اليوميّة أو الأسبوعيّة، بما أنّكِ قلت مذكّرات تساعدك على فهم نفسك والنبش في أفكارك ومعتقداتك، بل هي الباب الأوّل لمعرفة أخطائك، وماذا تريدين حقّا من حياتك، ولن أذهب بعيدا إذا ذكرتُ أنّها معلّم جيّد للتفكير النقديّ. أنت بهذه الطريقة التي توردين فيها ما يحدث في أيّامك - وقد تفعلين هذا بالتفصيل - بهذه الطريقة ستتمكّنين من نقد نفسك أوّلا، والأشخاص الذين يُحِيطُونَ بكِ ثانيا، ولنأخذ على سبيل المثال زميلتكِ في الجلوس. أنتِ تصنعين عالما متكاملا بحجارة الحروف، بما أنّه مستنبط أصلًا من الواقع، وهذه الحروف مع مرور الوقت ستكتسب وزنا، وتلُمّ شملها، فتُكمِّل الكلمة أختها حتّى تصنعي نَصّا ناضجا، يصلحُ للكثير من الأشياء. 

- هذا هو الموضوع الذي كنتَ تريد الحديث فيه؟ - سألتُ.

- نعم، لقد رأيتكِ كم من مرّة تخربشين في هاتفك، وأنت تحرّكين أناملك بسرعة عليه، فخلصتُ إلى شيئين: مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو الكتابة، وهذه الإجابة على كيف أيضًا.

- لذاك أشرتَ إلى المواقع سابقا. - قلتُ بظفر. 

- لا يهمّ حقّا هذا، ربّما نعم، ربّما لا. - ردّ وهو يمشي بسرعة، فلم أكد أوازيه في المشي. 

ساد الصمتُ بعدها، وتخيّلتُ أنّ الملائكة تحيط بنا وتحاول رفعنا إلى مقام غير مقام الأرض، بعيدًا عن طينتنا، استحيتُ من المقارنة بين اللذّة التي كنتُ أخوضها باللعب بجسدي وبين اللذّة التي كانت نتاج الحديث معهُ، لم أفهم حتّى إن كانت رومنسيّة. تضحكني كثيرا تلك الاعتقادات بأنّ المرأة المثقّفة تحتاج إلى كتاب مع وردة حمراءَ في ليلة تحيط بها الشموع، أنا لا أؤمن بكلّ هذه الترّهات، لقد كان شخصا صامِتا في غالب الأحيان، وإذا تحدّث فإنّه يُقطِّع قضيّةً ما ويُحاول معالجتها من جوانبَ مختلفةٍ، هنالك فقط ينهمرُ كالنهر الجاري بلا توقّف وأنا أتابع شفتَيه اللتين لا تتوقّفا عن الحركة، بتلك الطريقة تُقدَّم الوردة والكتاب وتحضّر الشموع إلى الأنثى المثقّفة، بكلامه هو. 

عند باب الثانويّة، وعند آخر الخطوات للخروج سبقني للأمام، ثمّ قالَ فور خروجه: «شكرا لوقتكِ الثمين الذي منحتيه لي، آمل أنّكِ استفدتِ ولو قليلًا، إنّ ابن سينا وأينشتاين، وحتّى فرويد لا يتصفّحون مواقع التواصل الاجتماعيّ فور دخولهم للمنزل، لا تنسي هذا» ثمّ أكمل دربه بلا وداعٍ حقيقيّ، كان شعره منفوشًا يتطاير مع الرياح الضاربة في تلك الظهيرة، بينما يمشي وهو بالكاد يترنّح، توقّف عند شجرةٍ خضراءَ قُبالة البوّابة هنيهة وكأنّه يحبس فكرة ما كي لا تهرب عنه، ثمّ غاب بين أيكة الجموع للأبد. 

لم أفهم للآن كُنه اهتمامه المفرط، ثمّ لا مبالاته المفاجئة. ربّما هو مجرّد حبّ عابر، إعجاب متمرّد، ربما كان قد كتبَ قصّة قصيرة عنّي من قبلُ أو حتّى ربّما سيفعل ذلك في المستقبل، ربّما لم يذكرني أصلا في عقله المملوء بالأفكار بعد تلك الحادثة، ربما هو غارق الآن بين ضجيج الأصوات، بين علمائه، بين نيتشه ودوستويفسكي... ربّما. وكان هذا اليوم الوحيد، وكان هو ذلك الذكر، أو الشخص الوحيد كذلك. وها أنا ذا أختم مذكّرة يومي، خائفة من أن لا أعود إلى دفتري، خائفة من أن آتي بشيئٍ أقلّ أهمّيّة ممّا حدث اليوم، بكلّ صدقٍ لا أريد أن أكتب أحداثا جديدة إلّا إذا كانت تُشبه يومي هذا أو ربّما أفضل منهُ. لكن فلأسأل نفسي للمرّة الأولى والأخيرة: أين أنتِ يا صفاء؟ 

تمّت.

أكتُوبر 2021.