انقسام الأنترنت العالمي إلى شطرين .. حقيقة أم خرافة ؟!!

لا تعتبر فرضية إنقسام الأنترنت العالمي إلى شطرين موضوعا طارئا على الساحة العالمية ، إلا أن الحديث في هذا الموضوع اشتد في السنوات الأخيرة ، و بالخصوص قبيل انعقاد مؤتمر الإنترنت العالمي الأخير في سيبتمبر 2018 الماضي .

فما معنى انقسام الأنترنت العالمي ؟ و هل يمكن لهذا الإنقسام أن يتحقق واقعيا ؟ و ماهي نتائجه و تداعياته على التكنولوجيا في العالم ؟ و قبل ذلك كله .. ما هي أسبابه و دوافعه ؟

لفهم فرضية إنقسام الأنترنت العالمي و تمثلها بالشكل الصحيح ، لا بد أولا من التعرف على كيفية اشتغال الشبكة العالمية ، و بالخصوص كيفية إدارتها و التحكم فيها .

من البديهي أن مقالا واحدا غير كاف لبسط و شرح كل ما يتعلق بكيفية اشتغال شبكة الأنترنت العالمية ، بل إن الأمر في الحقيقة يحتاج لأكثر من كتاب . و لهذا سنتطرق إلى الموضوع بحيث نجمع الإفادة إلى الإختصار مما يوصلنا إلى مقصودنا و هو كيفية اشتغال الشبكة العالمية و علاقتها بفرضية الإنقسام المزعومة .

شبكة الأنترنت العالمية كمجموعة ( مليارات ) من الحواسيب و الأجهزة الإلكترونية ( حواسيب شخصية أو سيرڤرات أو موجهات ) ، المربوطة و المرتبطة فيما بينها ، تتواصل باستعمال لغة موحدة ( بروتوكول IP ) ، من أجل الحصول على خدمات و طلبات ( حواسيب و أجهزة المستخدمين ) أو تقديمها لمستعملي الأنترنت ( الخوادم و السيرڨرات ) أو ضمان تحويل هذه الطلبات بين الحواسيب و الأجهزة ( المحولات و الموجهات ) .

لغة التواصل الموحدة ( بروتوكول IP ) تعتمد على منح كل جهاز مربوط في الشبكة عنوانا إلكترونيا وحيدا ( عنوان IP )

نبذة مختصرة عن عناوين IP :

عنوان IP هو عبارة عن كود رقمي مكون من 32 bits ( البت bit هو أصغر وحدة إلكترونية و لا يقبل إلا قيمتين 0 أو 1 ) ، و يكون مثلا على الشكل التالي :

11000000101001000000000100000001

و لا شك أن المستعمل العادي غير قادر على التعامل مع هذه الأكواد ، لذلك فهناك صيغة مختصرة لعناوين IP على شكل أكواد عشرية ( معبر عنها في نظمة العد ذات الأساس 10) .

مثلا الكود السابق يكتب على الشكل 192.168.1.1

المشكلة تكمن في أنه حتى مع هذه الأكواد العشرية المختصرة ، لا يستطيع المستعمل العادي حفظها أو تذكرها كلما أراد التواصل مع حاسوب معين للحصول على خدمة ما .

و لنضرب مثالا على ذلك .. هل من المناسب للمستعمل العادي أن يضع على متصفح الويب عنوان IP الخاص بالسيرڤر المحتوي على تطبيقات مثل facebook أو youtube أو google ، و ذلك كلما أراد الوصول إلى هذه التطبيقات أو المواقع ؟

أكيد أن الأمر سيكون في غاية الملل و المشقة ( بل مستحيل ) أن يضطر المستخدم كتابة عنوان IP لإحدى السيرڤرات كلما أراد زيارة موقع أو تطبيق مستضاف على هذا السيرڤر .

إذا ما هو الحل ؟

الحل يكمن في وجود نظام يستعيض به المستخدم عن كتابة عناوين IP الخاصة بالخوادم بكتابة أسماء المواقع و التطبيقات بشكل يسهل على المستخدم العادي حفظه و تذكره .

هل يوجد هكذا نظام أو برنامج أو بروتوكول ؟ بلى ، و هو المعمول به حاليا في جميع الشبكات المعلوماتية و من بينها الشبكة العالمية . إنه نظام إدارة أسماء النطاقات و المعروف اختصارا ب DNS .

ما هو نظام إدارة أسماء النطاقات أو DNS ؟

نظام إدارة أسماء النطاقات Domain Name System المعروف اختصارا ب DNS ، هو عبارة عن سجل عالمي ( قاعدة بيانات ) موزع على مئات السيرڤرات حول العالم بطريقة تراتبية . كيف ذلك ؟

للإتصال مثلا على موقع facebook.com ، يرسل متصفح الأنترنت طلب الإتصال أولا إلى خدمة إدارة أسماء النطاقات DNS الخاصة بمزود خدمة الأنترنت داخل البلد ، حيث يتم الرد على هذا الطلب بإرسال عنوان IP الخاص بالسيرڤر المستضيف لموقع facebook.com ، و بعدها يتصل متصفح المستخدم بالموقع مباشرة باستعمال عنوان IP المحصَّل عليه .

كيف يتم الحصول على عنوان IP الخاص بالسيرڤر المستضيف لموقع ما ؟

لتوضيح ذلك .. ننطلق من المثال السابق ، فعندما يرسل متصفح الأنترنت طلب الإتصال إلى خدمة إدارة أسماء النطاقات الخاصة بمزود الأنترنت داخل البلد من أجل الحصول على عنوان IP الخاص بالسيرڤر المستضيف لتطبيق facebook.com ، تقوم هذه الخدمة بإنشاء طلب جديد و إرساله إلى إحدى السيرڤرات الثلاثة عشر المتواجدة في قمة هرم نظام إدارة أسماء النطاقات العالمي و ذلك للحصول على عنوان IP الخاص بالسيرڤر الذي يحتوي على أسماء النطاقات المسجلة تحت النطاق .com .

عندما تحصل الخدمة على عنوان IP الخاص بالسيرڤر المكلف بنطاق com. تقوم الخدمة مرة أخرى بإنشاء طلب جديد و تحويله إلى السيرڤر com. و ذلك للحصول على عنوان الإيپي الخاص بالنطاق facebook.com .

الرد الأخير المحصل عليه يتم تحويله أخيرا إلى متصفح الأنترنت على حاسوب المستخدم ، حيث يقوم هذا الأخير بالتواصل مباشرة مع التطبيق أو الموقع .

بيت القصيد هنا في هذا الشرح المختصر لخدمة DNS هو تلك السيرڤرات الثلاثة عشر المتواجدة على قمة هرمية نظام إدارة أسماء النطاقات العالمي و التي تمر عليها جميع طلبات الإتصال بين أجهزة المستخدمين و السيرڤرات المستضيفة للمواقع و التطبيقات .

أين توجد هذه السيرڤرات ؟ و من يديرها أو يتحكم فيها ؟ و ما علاقتها بموضوع هذا المقال ؟

هناك 12 منظمة تتحكم في هذه الخوادم ، اثنان منها أوروبيتان (RIPE NCC و Autonomica ، أحد فروع Netnod) ، وواحدة يابانية (WIDE) ، والتسع منظمات الباقية هي أمريكية .

هذا معناه أن الولايات المتحدة الأمريكية تتحكم في 75٪ من نشاط الأنترنت العالمي ، ومعناه أيضا أن الغرب يتحكم في الشبكة العالمية بنسبة 100٪ .

دول عظمى مثل روسيا و الصين لم تعد راغبة في استمرار هذا الوضع ، لاسيما مع تزايد نمو اقتصاديات هذه الدول في العشرين سنة الأخيرة ، و ارتفاع مساهمتها في إنتاج التكنولوجيا العالمية (شبكة الجيل الخامس كمثال ) ، و أيضا اعتماد الدول الكبرى في تدبير صراعاتها على ما أصبح يسمى بالحرب الإلكترونية أو السبرانية ( دور الحكومة الروسية في قرصنة حواسيب الحزب الديموقراطي الأمريكي كنموذج ) .

في ظل هذه الظروف ظهرت على الساحة فكرة إنقسام الأنترنت العالمي ، و ذلك كرد على سيطرة الغرب عموما و الولايات المتحدة خصوصا على تدبير شبكة الأنترنت العالمية.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب و في محاولة منه للتقليل من مخاوف العالم ، خصوصا الروس و الصينيين ، قال إن حكومته ستعمل على فك ارتباطها بوكالة تخصيص الأرقام و الأسماء على الأنترنت المعروفة اختصارا ب ICANN .

هل بإمكان تحقق فرضية إنقسام الأنترنت العالمي على مستوى الواقع ؟

في رأيي .. ممكن نظريا لكنه مستحيل و كارثي في الواقع ..

الإقتصاد العالمي لا يحتمل حدوث سيناريو كهذا . انظر إلى ما تفعله أزمة بسيطة في إحدى أسواق المال العالمية و كيف تنتشر و تؤثر على بقية العالم .

انظر أيضا كيف وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإنهاء الحظر الذي فرضته حكومته على شركة هواوي الصينية خوفا من امتداد الصراع و تأثيره في قطاعات أخرى .

ما يمكن أن يفعله الأطراف المتنازعة في مواجهة الأزمة هو تعزيز حكامة الأنترنت العالمي و جعلها أكثر ديموقراطية من أجل تهدئة الأطراف المتخوفة و التخفيف من السياسات الإحترازية التي تهدد باتخاذها الأطراف المتخوفة من هيمنة الولايات المتحدة و الغرب على شبكة الأنترنت العالمية.