من المتعارف عليه عند قراءة التاريخ المرتبط بالحروب والمنازعات الدولية التقليدية أن تتواجه الأطراف المتنازعة وجهاً لوجه بالأسلحة والمعدات الحربية، ويمتد تأثير هذه الحروب على الدولة والانسان بشكل خاص في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والنفسية، لكن امتداد هذه الحروب إلى كرة القدم جعل من اللعبة ساحة لتصفية الحسابات السياسية والعرقية والعاطفية، بحيث لم يعد ملعب كرة القدم في هذه الأوقات مجرد مسرح يؤدي فيه اللاعبون مهاراتهم في مداعبة الكرة المطاطية، ورقصاتهم الاستعراضية أثناء الاحتفال بالأهداف، وسط تصفيق الجماهير التي تمثل كينونة هذا المسرح الرئيسية، بل تعدّت اللعبة المفاهيم الرياضية إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يستغل بعض اللاعبون ممن هم من عرقيات وأقليات عديدة، أو أصحاب قضايا إنسانية مختلفة شعبية اللعبة الكبيرة، ومحيطها الواسع في التأثير على الرأي العام والتوجه الفكري، فكُرة القدم اليوم أصبحت تتخذ منحنيات ايدولوجية مختلفة عما كانت عليه في السابق، مما جعلها أداة مهمة في أيدي أصحاب الآراء الجريئة والمسكوت عنها في الأماكن الأخرى التي تتطلب جرأة كبيرة في طرح المواقف السياسية فيها، لكن عشوائية عالم كرة القدم غير المسيطَر عليها، وشعبية اللعبة الجارفة سمحت في تكوين هذا الفضاء الواسع من التعبير وتفجير العواطف المكبوتة أياً كان نوعها أو غرضها.

النسر المزدوج:

يقول المدرب الأمريكي فينس لومباردي: "الناس الذين يعملون معاً يحققون الفوز، سواء كان ذلك ضد دفاعات كرة القدم المعقّدة، أو مشاكل المجتمع الحديث."، وهذا ما حصل في حكاية النسر الأسود المزدوج الذي جسد لنا المعنى الحقيقي للحروب الخضراء التي تحصل في عالم المستديرة، والحقوق التي تُستذكًر بعد أعوامٍ عديدة. حيث شعرنا وكأن الزمن قد عاد بنا إلى تسعينيات القرن المنصرم وإلى كوسوفو في يوغوسلافيا تحديداً حيث نكّلت القوات الصربية بمسلمي الألبان والكوسوفيون في حروب البلقان، وتم تهجيرهم وعائلاتهم قسراً إلى دول أوروبا وآسيا. ولم يكن ليخطر لنا هذه الأحداث السوداء ونحن نشاهد مباراة كرة قدم عادية لا تحمل أيدولوجيات معينة.

حدث هذا في خضم منافسات كأس العالم 2018، والذي أقيم في الأراضي الروسية، وحيث جمعت المجموعة الخامسة منتخبي سويسرا وصربيا، واللذين سيلعبان لتحديد المتأهل من المجموعة إلى ثمن نهائي البطولة. كانت المباراة هادئة كنظيراتها، يشوبها الحماس الهائل من قِبل الجماهير التي تجمّعت في ملعب كالينينغراد الروسي، وقد استطاع الصربي ألكسندر ميتروفيتش إحراز الهدف الأول لتتقدم صربيا بالنتيجة في الشوط الأول، لكن رجلَين اثنين كانا يرتديان بزة سويسرية محايدة لا دخل لها في جراح الماضي المرير بالنسبة لهما، لم يكونا سوى البانيّين مهاجرَين حملا في قلبهما أحلامهما الصغيرة التي دهسها الجنود الصرب قديماً، ونكّلوا بعائلاتهم عندما لم يكونا سوى طفلَين من أطفال كوسوفو الجريحة، كبرا ليحملا حب كرة القدم، وفي داخل كل منهما رغبة حثيثة في انتقام أخضر دون دماء حمراء على ساحة حرب روسية هذه المرّة. وقد بدأ هذه الانتقام الناعم السويسري من أصول ألبانية غرانيت شاكا، فقد عدّل النتيجة في الدقيقة 52 من عمر المباراة ليتجه بعدها مباشرة إلى الجماهير الصربية ملوحاً بإشارة النسر المزدوج بكلتا يديه والذي هو شعار لألبانيا، ليذكّرهم بأنه لم ولن ينسى ما حدث في الماضي وإن العالم بأكمله نسي، ثم يكمل صديقه شيردان شاكيري هذه الحرب الصغيرة محرزاً هدف الفوز في الدقيقة 90 من عمر المباراة ليشير بالنسر مرة أخرى في وجوههم التي امتلأت غيظاً وكمداً على هذين المحاربَين، كان نصراً أخضراً دون نار أو دخان، أو أي مخلفات لأسلحة أو أشلاء ضحايا، لكنه كان مؤلماً لمعسكر الصرب، الأمر الذي جعل الحكومة الصربية تصرّح بعد انتهاء اللقاء بقولها:" إن زمرة الألبانيين في فريق صانعي الساعات شرع في إطلاق سهامه السامة من أسابيع، حتى لا تنتهي المباراة دون استفزاز".

وقد قال المدرب السويسري أيضاً فلاديمير تبكوفيتش بردٍ دبلوماسي خشية تأجج المواقف بين المعسكرين:" لا ينبغي أبداً أن نخلط بين كرة القدم والسياسية"، لكنه حتماً يعلم بأن كرة القدم تحوّلت ومنذ زمنٍ سحيق إلى ساحة حروب وأيدولوجيات متنازعة، وجنود عائدين من حروب قديمة مثخنين منها بجراح عميقة، وعصاة متمردون لم يكملوا انتقاماتهم الصغيرة بعد. كل هذا حول الساحرة المستديرة إلى حرب، حربٍ حقيقية ولكنها خضراء!

أبناء المقاطعة:

يحدث أحيانا أن تكون هوية فريق ما هي هوية وطن مفقود، سلاحه الوحيد في وجه العالم هي كرته التي يقدمها للعالم على أنها واجهة أرضه المسلوبة ورمز يدل عليها، وكما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش:" كرة القدم فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشترك ما."

لم تكن مقاطعة كتالونيا في إسبانيا مجرد واجهة سياحية زاخرة بالسياح من مختلف أقطار العالم كما الآن فقط، بل هي مكان يكتنف بالهدوء الظاهري وفي أعماقه بركان هائج لطالما ثار في وجه الاستبداد والقهر، فنحن إذا ما عدنا سوية إلى الثلاثينيات من القرن العشرين، وفي أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي قامت بسبب مطالبة إقليم كتالونيا وإقليم الباسك بطلب الانفصال عن إسبانيا وإعلان الاستقلال الذاتي من الحكم الديكتاتوري المدريدي، قام القائد العسكري فرانشيسكو فرانكو بانقلاب عسكري وإعلان الحكم الملكي في إسبانيا، وما رافق هذا القرار من اعتداءات على الكتلان والباسكيّين الانفصاليين، وفي 16 مارس 1936 قام فرانكو بقصف مقر نادي برشلونة الكتالوني الذي احتشد فيه المدنيّون والمتظاهرون في حادثة لم يسبق لها مثيل في الساحة الرياضية، ولم يكن التدخل فقط عسكرياً سياسياً فقط، بل طالت أيدي الديكتاتور الجانب الرياضي حيث منع نوادي الإقليم برشلونة والباسك من التعاقد مع أي لاعب خارج الإقليم، وقد منع النجم آنذاك دي ستيفانو من الانتقال إلى برشلونة والذهاب إلى فريق العاصمة ريال مدريد.

هذه الأحداث السياسية نراها تتجسد اليوم في كلاسيكو الأرض الذي يلعب به الغريمين، فريق العاصمة وأبناء المقاطعة، ونلاحظ الحروب والمشاحنات التي تحدث على أرض الملعب خلفاً لهذه التبعات السياسية التي أورثت رغبة كبيرة في فرض الذات لدى لاعبي المقاطعة الذين يعبرون من خلال فريقهم عن هوية الوطن الذي ينتمون له، فنرى لاعب برشلونة جيرارد بيكيه ورفعه لعلم كتالونيا في كل مناسبة تجمع الفريقين، ومحاولته استفزاز جمهور الخصم في كل مناسبة والذي يعتبرهم في قرارة نفسه أعداء حرموه وأبناء جلدته من حرية طال انتظارها، ليتحول الكلاسيكو من مجرد مباراة كرة قدم عادية إلى حروبٍ خضراء لا نهاية لها.

هدنة الكريسماس:

على النقيض مما ذكرناه في الأعلى من انتقام وحروب، فإن هذه الحادثة التي حدثت عام 1914 في خضم الحرب العالمية الأولى قد بينت الوجه الآخر الذي من الممكن أن تكون عليه كرة القدم، فالمستطيل الأخر ليس فقط ساحة لتصفية الحسابات وسد الديون القديمة ورتق جراح الظلم الماضية، بل يمكن للساحرة المستديرة أن تكون وسيلة للسلم والحب بين الشعوب، وأداة للتقارب العاطفي بين الأعداء، وكما يقول المدرب الاسكتلندي بيل شانكلي:" يعتقد البعض أن كرة القدم هي مسألة حياة أو موت. أؤكد لكم أن الأمر أخطر من ذلك بكثير."، وهذا ما حدث في 25 ديسمبر من هذا العام، حيث انخرط العالم في حروب دموية يقودها دول الحلفاء بقيادة بريطانيا العظمى ضد دول المركز بقيادة الإمبراطورية الألمانية، وقد استمرت هذه الحروب 4 سنوات دموية خسر فيها العالم أكثر من 40 مليون ضحية، ولكن في ذلك اليوم بالتحديد عندما كان الجنود الألمان والإنجليز متخبئين في خنادقهم ينتظرون انتهاز أي فرصة للقضاء على بعضهم البعض، انطلقت من المعسكر الألماني ترانيم لعيد الميلاد احتفاءً بهذا اليوم، وقد وصلت إلى مسامع الجنود الإنجليز، ليتعاهد الطرفان بأن يخرجا دون أسلحة ليحتفلوا بالميلاد سوية، عندها التقا الجنود من المعسكَرين مهلّلين دون أسلحة أو إطلاق نار، وقد عقدوا العزم على لعب مباراة كرة قدم احتفالا بهذا قائلين:" كفّوا عنا نيرانكم، نكفّ عنكم نيراننا"، وقد كانت هذه اللحظة فاصلة في التاريخ، حيث حقنت دماء كثيرة وتعانق الجنود المتحاربين معبرين عن هذا بمباراة لكرة القدم، تجمعهم سوياً على مستطيل ترابي هذه المرة وبزي الحرب، لكنها وكما قلنا سابقا، كرة القدم وحدها من تستطيع حمل هذه التناقضات الكثيرة في ساحة واحدة خضراء!.