صراعنا مع اليهود.. بين العقدية والحدود

إنّ التدافع بين الحق والباطل سنّة كونية أودعها الله في الأرض منذ بدء الخليقة.

قال الله سبحانه وتعالى: [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلوات ومساجدُ يُذكر فيها اسم الله كثيراً]. [الحج – ٤٠].

وقال: [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين]. [البقرة – ٢٥١].

ولولا هذا التدافع لوقع فساد عريض في الأرض كما أخبرنا الله عزّ وجلّ ولفسد نظام الأرض، واضطرب التوازن بين الحق والباطل، وهذا كله من عظيم حكمة الله سبحانه وتعالى في خلقه وأمره.

ومن أبرز مظاهر الصراع بين الحق والباطل هو الصراع والتدافع بين الإيمان والكفر، فقد بدء منذ أنزل الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام إلى الأرض، ووقع الصراع بين أبنائه، فكانت المبادرة من الباطل في مهاجمة الحق لأنّ الباطل مجبولٌ على رفض الحق وقتاله.

قال الله سبحانه وتعالى: [واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فتُقُبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبّل الله من المتقين لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النّار وذلك جزاء الظالمين فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سَوءة أخيه قال يا ويلتَى أعَجَزْت أن أكون مثل هذا الغراب فأواريَ سَوءة أخي فأصبح من النادمين]. [البقرة – ٢٧/٣١]

هذه الآيات يقصّ فيها الله سبحانه وتعالى أول صراع بين الحق والباطل، وكيف أنّ أهل الباطل يحسدون أهل الحق ويقاتلونهم بغياً وحسداً، وليس اعتقاداً من أهل الباطل أنّهم أصحاب حق، وهذا ما أخبرناه الله عزّ وجلّ به عن أهل الكتاب.

فقال: [ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق]. [البقرة – ١٠٩].

وهذه السنّة الكونية ماضية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن ذلك الصراع العقديّ المستمر بين الإسلام والكفر، من المشركين واليهود والنصارى، الذين حكم الله بكفرهم وشركهم في عديدٍ من الآيات القرآنية الواضحة.

قال الله عزّ وجلّ: [وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يُؤفكون]. [التوبة – ٣٠].

ولعلّى من خلال هذا المقال أخصّص الحديث عن الصراع بيننا وبين اليهود، مُثبتاً عقدية الصراع بيننا وبينهم ردّاً على أصحاب الدّعاوى الباطلة التي يروّجون من خلالها أنّ صراعنا مع اليهود هو صراع أرض وحدود بسبب احتلالهم لأرض فلسطين، ومتى انتهى احتلالهم لتلك الأرض انتهى الخلاف معهم، هكذا هم يزعمون، ويقولون إفكاً ويكذبون، جهلاً منهم أو علماً بما يقولون.

إنّ عقديّة الصراع بين الإسلام والكفر عموماً، مسألة مُحكمة فَصَل الله عزّ وجلّ فيها القول في كتابه منذ أنزله قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام.

قال الله عزّ وجلّ: [وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين]. [البقرة – ١٩٣].

والفتنة المذكورة في الآية هي الشرك والكفر، كما قال بذلك ابن عباس رضي الله عنه وعدد من السلف.

ويشهد لهذا المعنى ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله].

ولنا أسوة حسنة في إبراهيم عليه السلام لمّا تبرّأ من قومه وأبيه بسبب الخلاف العقديّ وليس بسبب العداوة الشخصية أو القومية.

قال الله سبحانه وتعالى: [قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا بُرءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفر بكم وبدنا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده]. [الممتحنة – ٤].

فانظر إلى وضوح تلك الآية وسلاسة لفظها في بيان المعنى المقصود حتى لا تكون حجة لأهل الباطل للتحريف والتأويل الفاسد، فقوله [بدنا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده]، دليلٌ واضح أنّ علّة العِداء عقدية خالصة، وجاء بالحرف [حتى] الذي يفيد الانتهاء إلى الغاية في اللغة، أي أنّ العداوة باقية مستمرة حتى الانتهاء إلى الغاية وهي الإيمان بالله.

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن ثوبان مولى رسول الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، وقال: [اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله].

وعلّة القتال أيضاً في هذا الحديث بيّنة وواضحة، فقال لهم [قاتلوا من كفر بالله]، ولم يقل قاتلوا من احتلّ أرضنا فقط!

النصوص السابقة وغيرها من النصوص تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ خلافنا من الكفار خلافٌ لأجل العقيدة، وهو خلاف إيمان وكفر، ويدخل في ذلك اليهود والنصارى دخولاً أولياً حسماً للنقاش في هذه المادة.

قال الله عزّ وجلّ: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون]. [التوبة – ٢٩].

وهذه الآية نصٌّ حاسم في بيان عقدية الصراع بيننا وبين اليهود والنصارى، ولا سبيل لأولئك القوم لاستثناء اليهود من عقدية الصراع، فإنّ بضاعتهم مُزجاة، وإنما نفيس بضاعتهم اتّباعٌ للأهواء ومُداهنة للأعداء.

وقد كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده ومن سار على دربهم من التابعين هي قتال اليهود والنصارى قتال عقيدة، وقتال إيمان وكفر، وقد مرّت أزمنة لم يكن اليهود فيها يحتلون أرضاً للمسلمين، ومع ذلك استمر المسلمون في قتالهم مثلهم مثل باقي الكفار والمشركين، ولم يمتنعوا عن قتالهم بحجة أنّ قتالنا معهم قتال أرض وحدود.

في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فُتحت بيت المقدس وحُرّرت من الصليبيين، ولم يذكر أحدٌ حينها أنّ الخلاف معهم خلاف على الأرض وليس خلافاً على العقيدة والدّين، فإنّ الصراع معهم آنذاك لم ينتهِ بمجرد تحرير بيت المقدس، بل ظلّ مستمراً.

ومن جعل فرقاً في الخلاف بين اليهود والنصارى طالبناه بالدليل والبرهان، ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا مجرد هرطقات وتحليلات عقلية تهوي بها الريح في مكان سحيق عند أول دليل شرعي من الكتاب أو السنّة.

وأصحاب تلك الدعوى، ما هو موقفهم لو تحررت أرض فلسطين من اليهود ورحلوا عنها؟، حسب قولهم، سينتهي الصراع بيننا وبينهم لزوال علّة القتال وهي احتلال أرض فلسطين.

حينها كيف سيفهمون أو سيردّون على النصوص الشرعية التي تأمر بقتال الكفار ومنهم اليهود، وكيف سيردّون على النصوص التي تفيد استمرار الجهاد وخصوصاً جهاد اليهود إلى أن تقوم الساعة.

واقرأ هذا الحديث الذي جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنّه من شجر اليهود].

فهل هذا أيضاً قتال أرض وحدود؟، أم أنه قتال لأجل دين الله، فالعلّة التي تُبقي جذوة الصراع باقية إلى يوم القيامة هي علّة الخلاف العقدي ليس إلا.

وما يُعزّز ذاك المعنى، ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس لمّا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقال له: [إنّك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أوّل ما تدعوهم إليه شهادة أنّ لا إله إلا الله..].

ومعلوم أنّ اليمن أصلها عربي وكان يسكنها طوائف من النصارى واليهود، وعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إليها لم يأمره بقتالهم حتى يرحلوا عن أرض اليمن، بل قال له: [فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أنّ لا إله إلا الله]، فهنا أصل الخلاف، وهو العقيدة والتوحيد.

كذلك ما جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا أرسل علياً رضي الله عنه إلى خيبر قال له: [انفذ على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه].

وفي رواية أخرى؛ انطلق عليٌّ رضي الله عنه ثمّ توقف ولم يلتفت فنادى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال: على ماذا أقاتل الناس؟.

ماذا يتوقع أصحاب تلك الدعوة الإجابة من النبي صلى الله عليه وسلم، هل قال له قاتلهم على أرض وحدود، أم على قومية أم وطنية ؟

بل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: [قاتلهم حتى يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله].

ذلك هو الفهم الصحيح للصراع بيننا وبين الكفار عموماً، واليهود خصوصاً، هو الفهم المنطلق من الشرع المُطهّر بفهم السلف الصالح وهم الصحابة والتابعون، وليس الفهم المنطلق من الأفكار والثقافات التي ابتدعها أصحابها إرضاءً للمجتمعات الدولية التي لا تراعي فينا إلّاً ولا ذمّة.

ونحن هنا نخاطب أصحاب تلك الدعوى بصورة فرضية (وليست على الله بعيدة)، فلو أنّ يهود فلسطين دخلوا الإسلام وأصبحوا من أهل قبلة الإسلام، فما هو جوابهم؟.

إن قالوا أقررناهم على وجودهم وأملاكهم الخاصة بعد إسلامهم فقد ناقضوا أنفسهم ورجعوا إلى أنّ أصل الصراع عقدي وليس قومي أو جغرافي، لأنّهم أقرّوا بانتهاء الصراع بمجرد زوال الكفر ودخولهم الإسلام، ولو كان أصل الصراع غير ذلك لا ينتهي بمجرد دخولهم الإسلام.

وإن قالوا أخرجناهم وقاتلناهم بعد إسلامهم أيضاً فقد جاءوا ببدعٍ من الفعل لم يسبقهم إليه أحد من الأولين والآخرين، واستحلوا دماءهم واستباحوا أموالهم بعد إسلامهم، وهذا ظلم وعدوان لا يضمنه شرع ولا عُرف والله أعلم.

وأختم؛ أنّ كلامي السابق لا ينكر وجود صراعٍ على الأرض مع اليهود، فهم اغتصبوا أرض فلسطين التي هي بمثابة أموالٍ لأهلها وأصحابها، واسترداد هذه الأموال واجب شرعي، ولكنّ مقالي جاء لبيان أنّ أصل الصراع مع اليهود عقدي رداً على الذين يحاولون تصوير صراعنا مع اليهود أنّه صراع أرض فقط، ويجعلونه هو الأصل، لا بل الأصل هو الصراع العقدي بين الإيمان والكفر، وأمّا اغتصابهم لأرض فلسطين فهو فرعٌ لا أصلٌ يزيد ضَراوة الصراع معهم، ولو انتهى اغتصاب اليهود لأرض فلسطين، هل ينتهي صراعنا معهم؟.

نقول؛ لا، بل هو صراع مستمر حتى يكون الدّين كله لله، ويكون الأمر والحكم لله، فمن شاء منهم دخل الإسلام، ومن شاء ظلّ على كفره ودفع الجزية صاغراً تحت حكم الإسلام.

وفيما قدمنا كفاية لبيان هذه المسألة، وفي الرجوع إلى الأصول حلٌّ لما تفرّع من المسائل والفصول، والحمد لله ربّ العالمين.