لم تمر أيام قلائل منذ كتابة الجزء الأول من هذا المقال إلا واستمر انهمار وابل الفضائح التقنية لشركة فيسبوك من كل حدب وصوب بكثافة غير عادية، وكأن الأقدار تؤكد أن المقال السابق لم يكن محض افتراء، وأنه كلما أسرعت بحذف حسابك من فيسبوك نهائيًا كلما كان هذا أفضل لأمانك السايبري.
يمكنك الاطلاع على الجزء الأول من هذا الرابط:حذف فيسبوك نهائيًا أصبح ضروريًا لهذه السقطات التقنية.
وكما وعدتك؛ فسأعرض لك في هذا المقال الشق الثاني للأسباب التي ستدفعك لترك الجمل بما حمل، والنجاة بنفسك من براثن فيسبوك وبئره العميقة. وهذه المرة الأسباب متعلقة بك أنت شخصيًا، متعلقة بصحتك النفسية والعقلية والبدنية، وتأثير فيسبوك السلبي عليهما وعلى سلوكك بشكل عام.
التلاعب بصحتك النفسية عمدًا مع سبق الإصرار والترصد
في حوار ناري أُجري مع الرئيس السابق لشركة فيسبوك «شون باركر»؛ ذكر أن الشبكات الاجتماعية قد صُممت لاستغلال نقاط الضعف في النفس البشرية، وقال:
إذا كانت هذه التطبيقات قد اعتمدت في بنائها على طريقة تفكير معينة، فإن فيسبوك سيكون الأول بينهم في استيعابها جيدًا. طريقة التفكير هذه كانت عبارة عن كيف نستهلك أكبر قدر ممكن من وقتك وانتباهك؛ وهذا يعني أن نظل نزودك بجرعات من الدوبامين كل فترة قصيرة من خلال التعليقات والإعجابات التي تنهال عليك، وهذا سيجعلك تشارك بمحتوى أكثر يأتي بتعليقات وإعجابات أكثر وتدخل في دوامة لا نهائية.
—ثم أضاف:
إنها تشبه عملية اختراق لأنها تستغل نقاط الضعف في النفس البشرية. وأعتقد أننا – المبتكرون والصانعون لهذه المنصات مثلي ومثل مارك وكيفين سيستروم مؤسس إنستاجرام – قد فهمنا هذا جيدًا، ونفذناه بأي حال.
ويُعد هذا الاعتراف هو الأخطر على الإطلاق لأنه صدر من أحد مؤسسي المنصة الأوائل، ولأنه يؤكد بشكل تام أن التأثيرات الضارة التي يحدثها فيسبوك على صحتك النفسية هي تأثيرات مقصودة هدفها التلاعب بك لجعلك لا تفارق المنصة وتقضي وقتًا أطول يتحول إلى معلومات أكثر، والتي تتحول بدورها إلى أموال تدخل حسابات بنوك القائمين عليها.
وقد عقب (شون) على كلامه في النهاية بعبارة مُرعبة قائلًا:
الله وحده يعلم ماذا يفعل هذا بأدمغة أطفالنا.
أمراض بدنية لا حصر لها
في مقال علمي مبسط ومخيف كتبه د. بيلي جوردن على موقع Psychology Today بعنوان «وسائل التواصل الاجتماعي مضرة بدماغك وعلاقاتك»، ذكر أن هذا التلاعب في تحفيز الدماغ يأتي بالسلب على صحة الإنسان العامة مسببًا خطرًا حقيقيًا.
فكما قال:
الجبناء شجعان على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا هو سبب وجود المتصيدين عبر الإنترنت، فهم يفعلون ويقولون أشياء لا يمكن قولها أبدًا في لقاء وجهًا لوجه.
وهذا ما نعلم صحته جيدًا، وإضافة إلى ذلك فإن نتائجه وخيمة، حيث ينخدع الـ «The Ventral Tegmental Area» واختصارًا سنقول «VTA» – وهو الجزء المسؤول عن الاحتياجات الاجتماعية في الدماغ، والمسؤول أيضًا عن إفراز مادة الدوبامين – في اعتبار الإشادة أو الانتقاد الذي يتلقاه الشخص على موقع مثل فيسبوك هو نجاح أو إخفاق حقيقي، ويتصرف بالتالي على هذا الأساس.
وبناءً على احتماء الأشخاص خلف الشاشات فإن جرأتهم في المناقشة وإبداء الرأي تزداد لدرجة الإساءة غير محسوبة العواقب والتي تدفع لتثبيط الـ VTA والإضرار بالكيمياء العصبية في المخ، الأمر الذي يدفع الشخص للإحساس بالضغط العصبي وإحساسه بالخطر، فيندفع الدماغ في بدء آلية لمجابهة هذا الضغط والذي يقوم برفع مستوى ضغط الدم وإطلاق الجلوكوز في مجرى الدم للحصول على طاقة سريعة متبوعة بعمليات أخرى.
لكن هذه الآلية كانت قديمًا نادرة الاستعمال، في حالات مواجهة الخطر الحقيقي فقط، وهو مفيد جدًا للتصرف حياله أيًا كان قرار الشخص بالمواجهة أو الهرب. أما في عصر فيسبوك فإن الآلية أصبحت تعمل بكثافة إزاء هذا الخطر الوهمي المتمثل في التعليقات السلبية والإساءات الإلكترونية، وهذا الإفراط في استخدامه يسبب مقاومة الأنسولين في الجسم وأمراض مثل السكري والسمنة، واضطرابات طبية ونفسية مرتبطة بهذه الحالات بشكل موثوق.
فهل حقًا يستحق فيسبوك أن نعرض أنفسنا للإصابة بهذا الكم من الأمراض مقابل تواجدنا عليه؟
التأثير الضار على الذاكرة القصيرة
في بحث أجراه إريك فرانسين – أستاذ علوم الحاسوب بمعهد KTH الملكي التكنولوجي في ستوكهولم، السويد – ذكر أنه كلما طالت مدة تصفحك أونلاين كلما أثر ذلك على ذاكرتك العاملة أو المعروفة باسم «الذاكرة القصيرة»، وهي الذاكرة التي تحتاجها عندما تقوم بالتواصل مع الآخرين لإيجاد المعلومات المناسبة التي تحتاجها أثناء الحديث.
وحسب هذا البحث فإن الدماغ يحتاج إلى فترات الراحة بين الحين والآخر لتنقية المعلومات التي اكتسبها ونقلها من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الممتدة، وهو لديه سعة معينة من المعلومات لا يستطيع استيعاب أكثر منها في الفترة الواحدة.
فعندما تطيل تصفح فيسبوك – وهو بطبيعته يحمل معلومات كثيرة القليل منها مهم والكثير لا يهم – فإنك تجعل الدماغ عرضة لانهمار كل أشكال المعلومات عليه، وساعتها ستبدأ قدرتك على معالجة المعلومات بالفشل، وسيسقط منك بطبيعة الحال معلومات هامة كانت هي الأجدر بالحفظ في ذاكرتك لأنك ستقلل من سعة ذاكرتك القصيرة.
وقد قال إريك:
عندما تحاول تخزين العديد من الأشياء في ذاكرتك العاملة، فإنك تصبح أقل قدرة على معالجة المعلومات.
وعندما أتحدث عن نفسي، وبعد سنوات طويلة قضيتها على هذا الموقع منذ نشأته، فإنني أستطيع القول بأني أشعر بالتأثير السلبي الذي أحدثه في ذاكرتي القصيرة بشكل واضح وأحاول يائسًا بشتى الطرق استرجاع بعض من قدراتها المفقودة.
يزيد الاكتئاب والوحدة
في تجربة أجريت في جامعة بنسلفانيا على يد د. ميليسا جي هانت وفريقها البحثي، والتي تهدف إلى معرفة مدى تأثير منصات فيسبوك وإنستاجرام وسناب شات على نفسية الأفراد؛ استعانت بـ 143 مشاركًا لتراقب استخدامهم على تلك المنصات ومراقبة التغيرات التي تحدث لنفسياتهم لمدة 3 أسابيع.
وتعتبر هذه التجربة هي الأولى من نوعها في اعتبار نتائجها دقيقة ويعتمد عليها، فتقول د. ميليسا – المدير المساعد للتدريب السريري في قسم علم النفس في بنسلفانيا:
لقد شرعنا في إجراء دراسة أكثر شمولاً وصرامة وكانت صالحة أيضًا من الناحية البيئية.
وأفضت نتيجة التجربة إلى أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أقل يؤدي إلى انخفاض كبير في كل من الاكتئاب والشعور بالوحدة. وتضيف ميليسا على هذه النتيجة:
هذه الآثار واضحة بشكل خاص للأشخاص الذين كانوا أكثر اكتئابًا عندما دخلوا الدراسة.
—ثم استطردت:
وهو بالفعل أمر ساخر، فهل يعقل أن ما تسمى (مواقع التواصل الاجتماعي) هي التي تعزز شعورك بالوحدة بدلًا من جعلك أكثر اجتماعية وانخراطًا مع الناس؟
هذه النتائج نراها بأنفسنا ونشعر بها يوميًا، فلقد استخدمنا منصة فيسبوك لفترة كافية لتظهر علينا أعراض طول استخدامه، ومثل هذه الدراسات والنتائج المستخلصة منها ما هي إلا إثبات أكاديمي لما نعايشه بدون الاعتقاد أن ما يحدث (يحدث لي فقط).
رأي شخصي
والآن يكفيك من الدراسات ما قرأت لأنك أصبحت تعلم في قرارة نفسك بأن منصة فيسبوك «ضرها أكثر من نفعها»، ولكن دعني أحدثك قليلًا حديثًا وديًا وأجبني وناقشني في التعليقات، أو حتى أجب بينك وبين نفسك شريطة أن تكون صريحًا معها بكل أمانة.
لعنة التركيز
هل تعتقد أن تركيزك لا يزال كالسابق؟ هل تستطيع قراءة كتابك بشكل مستمر مباشرة؟ هل تنتهي من عملك بسرعة وإتقان؟ هل تستذكر دروسك وتنتهي منها في الموعد المحدد؟ هل لا تزال تتحمل قراءة مقال يستغرق 15 دقيقة من القراءة؟
أم أن فيسبوك يبرز كعقبة موضوعة أمامك تشتت تركيزك؟ تجعلك تهرع كل بضع دقائق لترى رسالة أو تنبيهًا بإعجاب أو تعليقًا أو مشاركة؟ أو حتى تتصفح الجديد على الصفحة الرئيسية التي لا تنفك تعرض المزيد والمزيد من المحتوى الذي لا ينتهي؟
من راقب الناس مات همًا
لا تنكر أن هناك متعة ما عندما تراقب نشاط شخص ما وأسلوب حياته على فيسبوك، فهناك ينشر أغلب الناس كل ما يمكن نشره من أفكار وصور وفيديوهات واهتمامات سواء كانت ذات أهمية لك أو لا، نفس منطق مشاهدة المسلسلات التركية التي تتعدى مئات الحلقات لأنها تنقل لك حكايات أشخاص لحظة بلحظة.
ولكن ألا تعتقد أن هذه المشاهدة والمتابعة تؤثر في نفسيتك أنت؟ فالمقارنات ستُعقد بدون وعي منك لترى أيكما أحسن حالًا، وسينعكس هذا حتمًا على حياتك الشخصية ورضاك عنها وعما حققته فيها، وفي الأغلب سيكون هذا التأثير بالسلب… أليس كذلك؟
اضطراب المشاعر
أعتقد بأنني لاحظت في آخر فترة من استخدامي لفيسبوك أن الصفحة الرئيسية أصبحت عبارة عن منشورات من مختلف الأشخاص تستوجب التعليق بـ «ألف مبروك – البقاء لله – ألف مبروك – البقاء لله – ألف… إلخ»، فهل تعتقد أن هذا الانتقال السريع بين الحالات المزاجية والنفسية لن يكون له أثر ما عليك؟ هل سيمكنك استشعار سعادة حقيقية أو حزن وتعاطف حقيقي بعد ذلك؟
عندما تجد أن كل حادث يقع في أي مكان في العالم تستطيع
المصدر : موقع إضاءات